شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من استعاذ من الدين

          ░10▒ بَابُ مَن استَعَاذَ(1) مِنَ الدَّيْنِ
          فيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم، كَانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ، يَقُولُ(2): اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ(3) قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ). [خ¦2397]
          قالَ المُهَلَّبُ: فيه وجوب قطع الذَّرائع لأنَّه ◙ إنَّما استعاذ مِنَ الدَّين لأنَّه ذريعةٌ إلى الكذب، والخلف في الوعد مع ما يقع المِدْيَان تحته مِنَ الذِّلَّة، وما لصاحب الدَّين عليه مِنَ المقال، والله أعلم، فإنْ قيل: فقد عارض هذا الحديث ما رواه جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ عن أبيه عن [عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه قالَ: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيْمَا يَكْرَهُ اللهُ ╡)) وكان عبدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ يقول لحَارِثَةَ: اذهبْ فَخُذْ لِي بدَيْنٍ، فإنِّي أكرَهُ أنْ أبيتَ اللَّيلةَ إلَّا واللهُ معي.
          قالَ الطَّبَرِيُّ: كلا الخبرين صحيحٌ، وليس في أحدهما دفع معنى الآخر، فأمَّا قوله ◙: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيْمَا يَكْرَهُ اللهُ)) فهو المستدين في غير ما(4) يكرهه الله، وهو يريد قضاءه، وعنده في الأغلب ما يؤدِّيه به(5) فالله تعالى في عونه على قضائه.
          وأمَّا المغرم الَّذي استعاذ منه ◙ فإنَّه الدَّين الَّذي استُدِين على وجوهٍ(6) ثلاثةٍ: إمَّا فيما يكرهه الله ╡ ثمَّ لا يجد سبيلًا إلى قضائه، أو مستدينٌ فيما لا يكرهه ╡ ولكنَّه(7) لا وجه لقضائه عنده، فهو متعرِّضٌ لهلاك مال أخيه ومتلِّفٌ له، أو مستدينٌ له إلى القضاء سبيلٌ غير أنَّه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاصٍ لربِّه ظالمٌ لنفسه، فكلُّ هؤلاء لوعدهم إن وعدوا مَنِ استدانوا منه القضاء فيخلفون(8)، وفي حديثهم كاذبون(9).
          وقد صحَّتِ الأخبار عنه ◙ أنَّه استدان في بعض الأحوال، فكان معلومًا بذلك أنَّ الحال الَّتي كره ذلك صلعم فيها غير الحال الَّتي ترخَّص لنفسه فيها.
          وقد استدان السَّلف، استدان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺ وهو خليفةٌ، وقال لمَّا طُعِنَ: انظروا كم عليَّ مِنَ الدَّيْنِ، فحسبوه فوجوده ثمانين ألفًا أو أكثر، وكان على الزُّبَيْرِ دَيْنٌ عظيمٌ ذكره البخاريُّ.
          فيما(10) ثبت عن النَّبيِّ صلعم وعن السَّلف مَنِ استدانتهم الدَّين مع تكريههم له إلى غيرهم الدَّليل الواضح على أنَّ اختلاف الأمر في ذلك كان على قدر اختلاف حال المستدينين]
(11). /


[1] في (ز): ((باب الاستعاذة)).
[2] في (ز): ((ويقول)).
[3] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[4] في المطبوع: ((فيما لا)).
[5] في المطبوع: ((منه)).
[6] في المطبوع: ((أوجه)).
[7] في المطبوع: ((لا يكرهه الله ولكن)).
[8] في المطبوع: ((يخلفون)).
[9] زاد في المطبوع: ((لوعدهم)).
[10] في المطبوع: ((فمِّما)).
[11] في المطبوع: ((المدينين))، وما بين معقوفتين مطموس في (ص).