شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب سكر الأنهار

          ░6▒ بَابُ سَكْرِ الأَنْهَارِ
          فيهِ ابنُ الزُّبَيْرِ: (أَنَّهُ حَدَّثَهُ(1) أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم، في شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبيِّ صلعم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ(2) صلعم لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ(3): أَنْ كَانَ ابنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلعم، ثمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ(4) المَاءَ حتَّى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: واللهِ(5) إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:65]) [خ¦2359] [خ¦2360]
          وترجم له بابُ شربِ الأعلى قبل الأسفل، وترجم له شرب الأعلى إلى الكعبين إلى: ((حَتَّى يَرْتَفِعَ إِلَى الجَدْرِ واستَرْعَى(6) لَهُ حَقَّهُ)) الحديث.
          [قال ابنُ شِهَابٍ: فقدَّر(7) الأنصار والنَّاس قول النَّبيِّ صلعم: (اِسْقِ ثمَّ اِحْبِسْ حتَّى يَرْتَفِعَ إِلَى الجَدْر) فكان ذلك إلى الكعبين.
          اختلف أصحاب مالكٍ في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل، فقال ابنُ حَبِيْبٍ: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به حتَّى إذا بلغ الماء مِنْ قاعه الحائط إلى الكعبين مِنَ القائم فيه: أغلق مدخل الماء وصرف ما زاد مِنَ الماء على مقدار الكعبين إلى مَنْ يليه، فيصنع به مثل ذلك حتَّى يبلغ ماء السَّيل إلى أقصى الحوائط، هكذا(8) فسَّر لي مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونِ، وقاله ابنُ وَهْبٍ.
          وقال ابنُ القَاسِمِ: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كلَّه إلى مَنْ تحته ولم يحبس منه شيئًا في حائطه. قال ابنُ حَبِيْبٍ: وقول مُطَرِّفٍ وابنِ المَاجِشُونِ أحبُّ إليَّ، وهما أعلم بذلك، لأنَّ المدينة كانت]
(9) دارهمًا وبها كانت القضيَّة، وفيها جرى العمل بها.
          وذكر ابنُ مُزَيْنٍ عن ابنِ القَاسِمِ مثل ما حكاه ابنُ حَبِيْبٍ عن مُطَرِّفٍ وابنِ المَاجِشُونِ، قال ابنُ حَبِيْبٍ: وما كان مِنَ الخلج والسَّواقي الَّتي يجتمع أهل القرى على إنشائها وأجري(10) الماء فيها لمنافعهم، فقلَّ الماء فيها ونضب عنها في أوقات نضوبه فالأعلى والأسفل فيها بالسَّواء، يُقسم(11) على قدر حقوقهم فيها، استوت حاجتهم أو اختلفت، هكذا(12) فسَّر لي مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونَ وأَصْبَغُ، وقاله(13) ابنُ وَهْبٍ وابنُ القَاسِمِ وابنُ نافعٍ.
          قالَ المُهَلَّبُ: وفي الحديث مِنَ الفقه الإشارة بالصُّلح والأمر به، /
          وفيه أنَّ للحاكم أن يستوعي لكلِّ واحدٍ مِنَ المتخاصمين حقَّه إذا لم ير منهما قبولًا للصُّلح ولا رضًا بما(14) أشار به(15)، كما فعل النَّبيُّ صلعم، وفيه توبيخُ مَنْ جفا على الإمام والحاكم ومعاقبته، لأنَّ النَّبيَّ صلعم عاقبه على قوله: (أَنْ كَانَ ابنَ عَمَّتِكَ) بأن استوعى للزُّبَيْرِ حقَّه، ووبخه الله تعالى في كتابه بأن نفى عنهم الإيمان حتَّى يرضوا بحكمه، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ} الآية(16)[النِّساء:65].
          ابنُ السِّكِّيْتِ: سَكَرْتُ النَّهرَ أسكرُه سَكْرًا سَدَدْتُه، قال صاحب «العين»: والسِّكر اسم ذلك السَّداد الَّذي يجعل(17) سدًّا للعين(18) ونحوه، قال الفَسَوِيُّ: ومنه قوله تعالى: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}[الحجر:15].
          ابنُ دُرَيْدٍ: أصله مِنْ سَكَرَتِ الرَّيح: سكن هبوبها، قال(19) أبو عُبَيْدٍ: والشُّروج والشِّراج مسائل الماء مِنَ الحرار إلى السُّهولة، واحدها شَرْجٌ، قال(20) غيره: شَرَجٌ، وقال أبو حنيفةَ: تُسَمَّى الحواجز الَّتي بين الدِّيار الَّتي تمسك الماء الجُدُور، واحدها جَدْرٌ.


[1] قوله: ((أنَّه حدَّثه)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[3] في (ز): ((وقال)).
[4] في (ز): ((واحبس)).
[5] قوله: ((والله)) ليس في (ز).
[6] في المطبوع: ((واستوعى))، وغير واضحة في (ص).
[7] في المطبوع: ((فقدَّرت))، وغير واضحة في (ص).
[8] في المطبوع: ((وهكذا)).
[9] قوله: ((كانت)) ليس في (ز)، وما بين معقوفتين ليس في (ص).
[10] في (ز): ((وإجراء)).
[11] زاد في (ز): ((بينهم)).
[12] في (ز): ((وهكذا)).
[13] في (ز): ((قال)).
[14] في (ز): ((ولا رضي ما)).
[15] زاد في (ز): ((منه)).
[16] في (ص): ((فيما شجر بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممَّا قضيت ويسلموا تسليمًا)) بدل قوله: ((الآية)).
[17] في (ز): ((بجعله)).
[18] في (ز): ((للشِّقِّ)).
[19] في (ز): ((وقال)).
[20] في (ز): ((وقال)).