عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي
  
              

          ░20▒ (ص) بَابٌ إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما إذا أسلمت المشركة أو النصرانيَّة، واقتصاره على النصرانيَّة ليس بقَيْدٍ؛ لأنَّ اليهوديَّة أيضًا مثلها، ولو قال: إذا أسلمت المشركة أو الذمِّيَّة؛ لكان أحسن وأشمل، ولم يذكر جواب (إذا) الذي هو الحكم قال بعضهم: لإشكاله.
          قُلْت: هذا غير موجَّهٍ، فإذا كان مشكلًا فما فائدة وضع الترجمة؟! بل جرت عادته أنَّهُ يذكر غالب التراجم مجرَّدة عن بيان الحكم فيها؛ اكتفاءً بما يُعلَم الحكمُ مِن أحاديث الباب التي فيه، وحكم المسألة التي وُضِعَت الترجمة له: هو أنَّ المرأة إذا أسلمت قبل زوجها هل تقع الفرقة بينهما بمجرَّد إسلامها، أو يثبت لها الخيار، أو يوقف في العدَّة؛ فإن أسلم استمرَّ النكاح وإلَّا وقعت الفرقة بينهما؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ، وقال ابن بَطَّالٍ: الذي ذهب إليه ابن عَبَّاسٍ وعطاءٌ: أنَّ إسلام النصرانيَّة قبل زوجها فاسخٌ لنكاحها؛ لعموم قوله ╡ : {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10] فلم يخصَّ وقت العدَّة مِن غيرها، ورُوِيَ مثله عن عمر ☺ ، وهو قول طاووس وأبي ثورٍ، وقالت طائفةٌ: إذا أسلم في العدَّة تزوَّجها، هذا قول مجاهدٍ وقتادة، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ والشَّافِعِيُّ وأحمد وإسحاق وأبو عُبَيدٍ، وقالت طائفةٌ: إذا عُرِضَ على زوجها الإسلام فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يُسلِم فُرِّق بينهما، وهو قول الثَّوْريِّ وأبي حنيفة إذا كانا في دار الإسلام، وأَمَّا في دار الحرب فأسلمت وخرجت إلينا بانت منه بافتراق الدارين، وفيه قولٌ آخرُ يُرْوَى عن عُمَر بن الخَطَّاب أنَّهُ خيَّر نصرانيَّةً أسلمت وزوجُها نصرانيٌّ إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت معه.
          (ص) وَقَالَ عَبْدُ الوَارِثِ: عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: إِذَا أسْلمَتِ النَّصْرَانِيّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعةٍ حَرُمَتْ علَيْهِ.
          (ش) مُطَابقتُه للتَّرجَمَة ظاهِرَةٌ، وتوضِّح الترجمةَ أيضًا، أورده معلَّقًا عن (عَبْد الوَارِثِ) ابن سعيدٍ التَّمِيمِيِّ البَصْريِّ، عن (خَالِدٍ) الحذَّاء... إلى آخره، وهو مِن أفراده، وهو عامٌّ يشمل المدخول بها وغيرها.
          (ص) وَقَالَ دَاوُدُ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ: سُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ أَهِيَ امْرَأتُه؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ.
          (ش) أخرج هذا المعلَّق [عن (دَاوُد) ابن أبي الفرات _واسمه عَمْرو_ ابن الفرات عن (إِبْرَاهِيمَ) بن ميمون (الصَّائِغِ) المَرْوَزِيِّ، قُتِل سنة إحدى وثلاثين ومئةٍ، و(عَطَاءٌ) هو ابن أبي رَبَاحٍ.
          قوله: (مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ) أي: مِن أهل الذِّمَّة... إلى آخره، وأخرج ابن أبي شَيْبَةَ بمعناه عن عُبَادَة بن العوَّام عن حَجَّاجٍ عن عطاءٍ في النصرانيَّة تُسلِم تحت زوجها، قال: يُفرَّق بينهما.
          (ص) وَقَالَ مُجاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِي الِعِدَّةِ يَتَزَوِّجُهَا.
          (ش) أخرج هذا المعلَّق]
أيضًا عن مجاهدٍ: إذا أسلم ذمِّيٌّ في عدَّة المرأة، صورته: أسلمت امرأته، ثُمَّ أسلم هو في عدَّتها، له أن يتزوَّجها، ووصله الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجِيحٍ عنه.
          (ص) وَقَالَ اللهُ ╡ : {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ / لَهُنَّ}[الممتحنة:10].
          (ش) أورد البُخَاريُّ هذه الآية للاستدلال بها في تقوية قول عطاءٍ المذكور الآن، وأنَّه اختار هذا القول، وهو أنَّ النصرانيَّة إذا أسلمت ثُمَّ أسلم زوجها في العدَّة فَإِنَّها لا تحلُّ له إلَّا بنكاحٍ جديدٍ وصداقٍ.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى عطاءٌ في الباب الذي قبله عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّ المرأة إذا هاجرت مِن أهل الحرب لم تُخطَب حَتَّى تحيضَ وتَطهُر، فإذا طَهُرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجُها قبل أن تُنكَح رُدَّت إليه... الحديث، فبين قولِه وروايتِه عنِ ابن عَبَّاسٍ تعارضٌ.
          قُلْت: أُجيبَ بأنَّ قوله: (لم تُخطَب حَتَّى تحيض وتَطهُر) يحتمل أن يراد به انتظار إسلام زوجها ما دامت [هي في عدَّتها، ويحتمل أيضًا أنَّ تأخير الخطبة إِنَّما هو لكون المعتدَّة لا تُخطَب ما دامت] في العدَّة، فإذا حُمِل على الاحتمال الثاني ينتفي التعارض.
          (ص) وَقَالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأبَى الآخَرُ بَانَتْ، لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.
          (ش) أي: قال (الحَسَن) البَصْريُّ و(قَتَادَة) ابن دِعامة... إلى آخره، وهو ظاهرٌ، وأخرج ابن أبي شَيْبَةَ عن كلٍّ منهما نحوه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأةٌ مِنَ المُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى المُسْلِمِينَ، أيُعاوَضُ زَوْجُها مِنْهَا؟ لقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}[الممتحنة:10] قَالَ: لَا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلعم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ.
          (ش) أي: قال عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جُرَيْج)... إلى آخره.
          قوله: (أَيُعَاوَضُ؟) على صيغة المجهول مِنَ المعاوضة، ويُروى: <أيُعاضُ؟> مِنَ العِوَض؛ أراد: هل يُعطَى زوجُها المشركُ عوضَ صَداقها؟ قال عطاءٌ: لا يُعطَى؛ لأنَّ قوله تعالى: ({وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}) إِنَّما كان في زمنِ النَّبِيِّ صلعم ، وبين المشركينَ مِن أهل العهد، وكان الصلح انعقد بينهم على ذلك، وأَمَّا اليوم فلا، وأخرج عبد الرَّزَّاق عن ابن جُرَيْجٍ قال: قلت لعطاءٍ... إلى آخره نحوه.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صلعم وبَيْنَ قُرَيْشٍ.
          (ش) أشار بقوله هذا إلى عطاءِ المرأةِ التي جاءت إلى المسلمين زوجَها المشركَ عوضَ صداقها، ويوضِّح هذا ما رواه ابن أبي حاتمٍ مِن طريق ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلِيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}[الممتحنة:10] قال: مَن ذهب مِن أزواج المسلمين إلى الكفَّار فليعطِهم الكفَّار صدقاتهنَّ وليمسكوهنَّ، ومَن ذهب مِن أزواج الكفَّار إلى أصحاب مُحَمَّدٍ صلعم فكذلك، هذا كلُّه في صلحٍ كان بين النَّبِيِّ صلعم وبين قريشٍ.