عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}
  
              

          ░1▒ (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}[الطلاق:1] {أحْصَيْنَاهُ}[يس:12] حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ.
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الطلاق).
          قوله: ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}) خطابٌ للنَّبيِّ صلعم بلفظ الجمع تعظيمًا أو على إرادة ضمِّ أمَّته إليه، والتقدير: يا أيُّها النَّبِيُّ وأمَّتُه ({إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}) أي إذا أردتم تطليق النساء ({فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}) يعني: طلِّقوهنَّ مستقبلاتٍ لعدَّتهنَّ، كقولك: أتيته لليلةٍ بقيت مِنَ المحرَّم؛ أي: مستقبلًا لها، والمراد أن يطلِّقهنَّ في طُهْرٍ لم يجامعهنَّ فيه، ثُمَّ يُخَلَّينَّ حَتَّى تنقضي عدتهنَّ، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السُّنَّة وأبعده مِنَ الندم، وقال النَّسَفِيُّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وهو أن يطلِّقها طاهرةً مِن غير جماعٍ، وقيل: طلِّقوهنَّ لطهرهنَّ الذي يحصينه مِن عدَّتهنَّ، ولا تطلِّقوهنَّ لحيضهنَّ الذي لا يعتددن به مِن قرئهنَّ، وهذا للمدخول بها؛ لأنَّ مَن لم يُدخَل بها لا عدَّة عليها.
          قوله: ({وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}) أي: عدد أقرائها فاحفظوها، أشار إليه البخاريُّ بقوله: ({أحْصَيْنَاهُ} حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ) وقال ابن المنذر: أباح الله ╡ الطلاق بهذه الآية.
          واختلف المفسِّرون فيمَن نزلت هذه الآية، فقال الواحديُّ: عن قتادة عن أنسٍ قال: طلَّق النَّبِيُّ صلعم حفصةَ فأنزل الله ╡ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، وقيل له: راجعها، فَإِنَّهُا صوَّامةٌ قوَّامهٌ، وهي مِن إحدى نسائك وأزواجك في الجنَّة، وقال السُّدِّيُّ: نزلت في عبد الله بن عُمَر؛ وذلك أنَّهُ طلَّق امرأته حائضًا، فأمره رسول الله صلعم أن يراجعها، وقال مقاتلٌ: نزلت في عبد الله بن عُمَر، وعقبة بن عَمْرٍو المازنيِّ، وطفيل بن الحارث بن المطَّلب، وعمرو بن سعيد بن العاص، وفي «تفسير ابن عَبَّاس»: قال عبد الله: وذلك أنَّ عمر ونفرًا معه مِنَ المهاجرين كانوا يطلِّقون لغير عدَّةٍ ويراجعون بغير شهودٍ، فنزلت.
          والطلاق أبغض المباحات، وقال رسول الله صلعم : «إنَّ مِن أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وقال: «تزوَّجوا ولا تُطلِّقوا، فإنَّ الطلاق يهتزُّ منه العرش» وقال: «لا تطلِّقوا النساء إلَّا مِن ريبةٍ، فإنَّ الله لا يحبُّ الذوَّاقين ولا يحبُّ الذوَّاقات» وقال: «مَا حلف بالطلاق ولا استحلف به إلَّا منافقٌ».
          (ص) وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ / يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ.
          (ش) أي: الطلاق السُّنِّي أن يطلِّق امرأتَه حالةَ طهارتها عن الحيض، ولا تكون موطوءةً في ذلك الطهر وأن يُشْهِد شاهدين على الطلاق، فمفهومه: أنَّهُ إن طلَّقها في الحيض أو في طهرٍ وطئها فيه أو لم يُشْهِد يكون طلاقًا بدعيًّا.
          واختلفوا في طلاق السُّنَّة؛ فقال مالكٌ: طلاق السُّنَّة أن يطلِّق الرجل امرأته في طهرٍ لم يمسَّها فيه تطليقةً واحدةً، ثُمَّ يتركها حَتَّى تنقضي العدَّة برؤية أَوَّل الدم مِنَ الحيضة الثالثة، وهو قول اللَّيث والأوزاعيِّ، وقال أبو حنيفة: هذا حسنٌ مِنَ الطلاق، وله قولٌ آخرُ؛ وهو ما إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا طلَّقها عند كلِّ طهرٍ طلقةً واحدةً مِن غير جماعٍ، وهو قول الثَّوْريِّ وأشهب، وزعم المرغينانيُّ: أنَّ الطلاق على ثلاثةِ أوجهٍ عند أصحاب أبي حنيفة: حسنٌ وأحسن وبدعيٌّ، فالأحسن: أن يطلِّقها وهي مدخولة بها تطليقةً واحدةً في طهرٍ لم يجامعها فيه، ويتركها حَتَّى تنقضي عدَّتها، والحسن: وهو طلاق السُّنَّة وهو أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثًا في ثلاثة أطهارٍ، والبدعيُّ: أن يطلِّقها ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، أو ثلاثًا في طهرٍ واحدٍ، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا.