عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من قال لامرأته: أنت علي حرام
  
              

          ░7▒ (ص) باب مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم من قال لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، ولم يذكر جواب مَن الذي هو حكم هذا الكلام اكتفاءً بما ذكره في الباب.
          (ص) قَالَ الْحَسَنُ: نِيَّتُهُ.
          (ش) أي: قال الحسن البَصْريُّ: إذا قال لامرأته: (أنت عليَّ حرامٌ) الاعتبارُ فيه نيَّتُه، ووصل عبد الرَّزَّاق هذا التعليق عن معمرٍ عن عمرٍو عنه، قال: إذا نوى طلاقًا فهو طلاقٌ، وإلَّا فهو يمينٌ انتهى، وهو قول ابن مسعودٍ وابن عمر ♥ ، وبه قال النَّخَعِيُّ وطاووس، وفي «التوضيح»: في هذه الصورة أربعة عشر مذهبًا.
          قُلْت: ذكر القرطبيُّ ثمانية عشر قولًا، قيل: وزاد غيرُه عليها، وذكر ابن بَطَّالٍ منها ثمانية أقوالٍ، فقالت طائفةٌ: هي ثلاثٌ، ولا يُسأَل عن نيَّته، رُوِيَ ذلك عن عليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عمر، وبه قال الحسن البَصْريُّ في روايةٍ والحكم بن عُتَيْبة وابن أبي ليلى ومالكٍ، ورُوِيَ عنه وعن أكثر أصحابه: إن قال ذلك لامرأته قبل الدخول فثلاثٌ، إلَّا أن يقول: نويتُ واحدةً، وقال عبد العزيز بن أبي سَلَمَةَ: هي واحدةٌ إلَّا أن يقول: أردت ثلاثًا؛ فثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فواحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يمينًا فهو يمينٌ يكفِّرها، وإن لم ينوِ فرقةً ولا يمينًا فهي كذبةٌ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، غير أنَّهم قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدةٌ، وإن لم ينوِ طلاقًا فهو يمينٌ، وهو مُولٍ، وقال ابن مسعودٍ: إن نوى طلاقًا فهي تطليقةٌ وهو أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهو يمينٌ يكفِّرها، وعن ابن عمر مثله، وقال الشَّافِعِيُّ: ليس قوله: «أَنْتِ حَرَامٌ» بطلاقٍ حَتَّى ينويَه، فإن أراد الطلاق فهو ما أراد مِنَ الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاقٍ؛ كان عليه كفَّارة يمينٍ، قال: وليس بمُولٍ، وقال ابن عَبَّاس: يلزمه كفَّارة ظهارٍ، وهو قول أبي قِلَابَة وسعيد بن جُبَيرٍ وأحمد، وقيل: إنَّها يمينٌ فيكفِّر، ورُوِي عن الصِّديق وعمر وابن مسعودٍ وعائشة وسعيد بن المُسَيَِّبِ وعطاء والأوزاعيِّ، وأبو ثورٍ، وقيل: لا شيءَ فيه ولا كفَّارة كتحريم الماء، ورُوِي عن الشعبيِّ ومسروقٍ وأبي سَلَمَةَ، قال أبو سَلَمَةَ: ما أبالي حرَّمتها أو حرَّمت الفُرات، وهو شذوذٌ.
          (ص) وَقَالَ أهْلُ العِلْمِ: إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقدْ حَرُمَتْ عَليْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بالطَّلَاقِ وَالفِرَاقِ، ولَيْسَ هذَا كالَّذِي يُحَرِّمُ الطعامَ؛ لِأَّنهُ لا يُقالُ لِطَعامِ الحِلِّ: حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وقال في الطَّلَاقِ ثَلَاثًا: لا تَحِلُّ لهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
          (ش) لمَّا وضع الترجمة بقوله: (مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ) ولم يذكر الجواب فيها أشار بقوله: (قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ...) إلى آخره إلى أنَّ تحريم الحلال ليس على إطلاقه، فإنَّ مَن / طلَّق امرأته ثلاثًا تحرم عليه، وهو معنى قوله: (فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ) أي: فسمَّاه العلماء (حَرَامًا بالطَّلَاقِ) أي: بقول الرجل: طلَّقت امرأتي ثلاثًا.
          قوله: (وَالْفِرَاقُ) أي: وبقوله: فارقتك، ومَن حرَّم عليه أكلَ الطعام لا يَحرُم عليه، وهو معنى قوله: (وَلَيْسَ هَذَا) أي: الحكم المذكور في الطلاق ثلاثًا (كالَّذِي يُحَرِّمُ الطعامَ) أي: كحكم الذي يقول: هذا الطعام عليَّ حرامٌ لا آكله؛ فَإِنَّهُ لا يَحرُم، وأشار إلى الفرق بينهما بقوله: (لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ) أي: الحلال: (حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ) ثلاثًا (حَرَامٌ) والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} مِن بَعدُ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230] وقال المُهَلَّب: مِن نعم الله تعالى على هذه الأمَّة فيما خفَّف عنهم أنَّ مَن قبلهم كانوا إذا حرَّموا على أنفسهم شيئًا حَرُم عليه، كما وقع ليعقوب ◙ ، فخفَّف الله ذلك عن هذه الأمَّة ونهاهم عن أن يحرِّموا على أنفسهم شيئًا مِمَّا أَحلَّ لهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ}[المائدة:87] انتهى.
          وحاصل الكلام: أنَّ بين المسألتين فرقًا، وأنَّ تحريم المباح يمينٌ، وأنَّ فيه ردًّا على مَن لم يفرِّق بين قوله لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، وبين قوله: هذا الطعام عليَّ حرامٌ، حيث لا يلزمه شيءٌ فيهما، كما ذكرنا عن قريبٍ مَن قال ذلك، وذكرنا أقوال العلماء فيه.