الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إقبال المحيض وإدباره

          ░19▒ (بَابُ إِقْبَالِ المَحِيضِ): أي: الحيض (وَإِدْبَارِهِ): بكسر همزته كإقبال.
          قال في ((الفتح)): اتفق العلماء على أن إقبال الحيض يعرف بالدفقة من الدم في وقت إمكان الحيض، واختلفوا في إدباره، فقيل: يعرف بالجفوف، وهو أن يخرج ما تحشي به جافاً، وقيل: بالقصة البيضاء، وإليه ميل المصنف.
          وقال ابن بطال: إقبال الحيض، وهو الدفعة من الدم، وإدباره: إقبال الطهر.
          وقال العيني: وعند أصحابنا الحنفية: علامة إدبار الحيض وانقطاعه: الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها تحرت، وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل. انتهى.
          وأقول: هذا في الصلاة، وأما الصوم فإنها تنوي ليلاً؛ فإن استمر منقطعاً صح صومها، وإلا فلا.
          فقال ابن الملقن: اختلف الفقهاء في الحائض تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر، فقال مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هي بمنزلة الجنب، تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم، وقال الأوزاعي: تصومه وتقضيه، وقال أبو حنيفة: إن كانت أيامها أقل من عشرة صامته وقضته، وإن كانت منها صامته، ولا قضاء، وعن ابن الماجشون: يومها ذلك يوم فطر. انتهى
          (وَكُنَّ نِسَاءٌ): بالرفع بدل من ضمير (كن)، أو مبتدأ مؤخر، أو حال إن جعلت تامة، أو على لغة: أكلوني البراغيث، وبالنصب على الاختصاص، ولا يلزم فيه أن يكون معرفة؛ لكنه الأكثر فيه، وفائدة ذكره مع كونه معلوماً من (كن): إما لأنه لم يعلم إلا من المفسر، وإما لأن فائدته التنويع، والتنوين يدل عليه.
          وقال في ((الفتح)): والتنكير في (نساء): للتنويع؛ أي: كان ذلك من نوع من النساء لا من كلهن. انتهى.
          وكأنه وقع للعيني: والكسر، فقال: إن لم يكن هذا مصحفاً من الناسخ / فهو غلط؛ لأنه ما ثم كسر.
          وجملة: (يَبْعَثْنَ): أي: النساء (إِلَى عَائِشَةَ): خبر (كن) (بِالدِّرَجَةِ): بكسر الدال وفتح الراء وبالجيم والهاء: جمع الدُرْج _بضم فسكون فجيم_ كخرج وخرجه، وترس وترسه، وهو وعاء المغازل، ويقال: هو سفط صغير.
          قال ابن بطال: هكذا يرويه أصحاب الحديث.
          وقال ابن قرقول: الدُّرْجة: بضم فسكون: تأنيث درج كذلك وبه ضبطه ابن عبد البر في ((الموطأ))، قاله الكرماني.
          وقال الباجي: بفتحتين، لكن قال في ((المطالع)): إنه بعيد عن الصواب.
          والمراد به: ما تحشي به المرأة فرجها من قطنة أو غيرها لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء أم لا؟
          وقوله: (فِيهَا الكُرْسُفُ): حال من الدرجة: أو صفة، وهو بضم الكاف وسكون الراء والسين المهملة وبالفاء:(القطن)، وهو في نسخة هنا، يجمع على كراسف.
          قال ابن الملقن: ويقال فيه: الكرفس، على القلب.
          (فِيهِ): أي: الكرسف (الصُّفْرَةُ): أي: من دم الحيض، كما زاده في ((الموطأ))، واختير القطن لبياضه؛ ولأنه ينشف الرطوبة فيظهر فيه من أثر الدم ما لم يظهر في غيره (فَتَقُولُ): أي: عائشة للنساء (لَا تَعْجَلْنَ): بفتح الفوقية أو التحتية وبفتح الجيم وسكون اللام لاتصاله بضمير الإناث كالتحتية في آخر (حَتَّى تَرَيْنَ): بالفوقية أو التحتية أوله وبفتح الراء (القَصَّةَ): بفتح القاف، وحكى الفراء كسرها وتشديد الصاد المهملة: الجص: وهو النورة.
          قال الجوهري: وهي لغة حجازية، وقصص داره:جصصها، وفي حديث الحائض: (لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء)، والمراد: حتى تخرج القطنة، أو الخرقة التي تحشي بها كأنها جصة لا يخالطها صفرة.
          وعلى هذا فقوله: (البَيْضَاءَ): صفة مؤكدة (تُرِيدُ): أي: عائشة (بِذَلِكَ): أي المذكور من القصة (الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ): بفتح الحاء، وقيل: المراد بالقصة هنا: ما ابيض، يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، يتبين بها نقاء الرحم تشبيهاً بالجص.
          وقال مالك: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذلك أمر معلوم عند النساء يرينه عند الطهر، وهذا الأثر وصله في ((الموطأ)) عن علقمة بن أبي علقمة المدني عن أمه مرجانة _مولاة لعائشة_ بلفظ: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض، يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، تريد الطهر من الحيضة، ووصله البيهقي بمعناه عن فاطمة بنت محمد _وكانت في حجر عمرة_ أن امرأة من قريش أرسلت إلى عمرة كرسفة فيها صفرة فقالت: حتى ترى البيضاء خالصاً.
          وفيه: دلالة على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض مطلقاً، وهو مذهب الشافعي والجمهور، وقال أبو يوسف: لا حتى يتقدمهما دم، وأما في غير ذلك، فسيذكره المصنف في باب مفرد، وفيه: أن القصة البيضاء علامته لانتهاء الحيض، ويتبين بها ابتداء الطهر، وأما من ذهب إلى أنه يعرف بالجفوف، فاعترض عليه: بأن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر، فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض بخلاف من القصة فينهما فرق، كما نقله عياض عن النساء وأهل المعرفة
          (وَبَلَغَ ابْنَةَ) ولابن عساكر: <بنت> (زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ): أي: الأنصاري أحد كتاب الوحي، وجامع القرآن، وبنته هي: أم كلثوم، زوجة سالم بن عبد الله بن عمر؛ ولأن لها رواية دون أخواتها أو أختها أم سعد، وهذا الأثر وصله في ((الموطأ)) عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد، وعمته: هي عمرة بنت حزم، صحابية قديمة، عمته مجازاً، وإلا فهي عمة جده محمد بن عمرو بن حزام، فروايته عنها منقطعة؛ لأنه لم يدركها، وروايتها عن زيد فيها بعد، نعم يحتمل أن المراد: عمته الحقيقية، وهي أم عمرو، أو أم كلثوم، قاله في ((الفتح)).
          وقال ابن الملقن ومن تبعه: إنها أم سعد، ذكرها ابن عبد البر في الصحابيات، وذكر الحافظ الدمياطي شيخ شيوخنا أن لزيد من البنات: أم إسحاق، وأم كلثوم، وأم حسن، وأم محمد، وحسنة، وعمرة، وقريبة.
          ورده في ((الفتح)): بأنه لم ير لواحدة منهن رواية إلا لأم كلثوم، فكأنها هي المبهمة، وبأنه ليس في ذكر ابن عبد البر لها في الصحابة، دليل على المدعى؛ لأنه لم يقل:إنها صاحبة القصة، بل لم يأت لها ذكر عنده، ولا عند غيره إلا من طريق عنسبة بن عبد الرحمن، وقد كذبوه، وكان مع ذلك يضطرب فيها، فتارة يقول: بنت زيد بن ثابت، وتارة يقول: امرأة زيد، ولم يذكر أحد / من أهل المعرفة بالنسب في أولاد زيد من يقال لها: أم سعد. انتهى.
          واعترضه العيني: بأن الذهبي ذكر أن أم سعد بنت زيد بن ثابت، وقيل: امرأته، وبأن عدم رؤيته لرواية واحدة منهن لا ينافي رؤية غيره لذلك، وبأنه ما الفرق بين زعمه أنها أم كلثوم، وبين زعم صاحب ((التوضيح)): أي: فإنه قال: ويشبه كما قال هو: فكأنها هي المبهمة.
          وأقول: أجاب عنه في ((الانتقاض)): بأن وجه الترجيح: أن أم كلثوم كانت زوج سالم، وبأن الذهبي تبع ابن عبد البر، والذي نفاه إنما هو عن أهل العلم بالنسب، فكيف يستقيم هذا؟
          ولا يخفى ما في هذين الجوابين لمن أنصف، ولم يجب عن كون عدم رؤيته لواحدة..إلخ؛ لأنه إنما نفى رؤيته، فلا يرد عليه رؤية غيره؛ لكن يرد عليه: أنه قصور، إلا أن يدعي أن غيره هو الذهبي فقط، وقد رده، فلعله لهذا لم يتعرض لرده صريحاً
          (أَنَّ نِسَاءً): بفتح همزة (أن) وهي واسمها وخبرها في تأويل مصدر فاعل (بلغ)، ومفعوله:(ابنة زيد)، و(نساء): بالتنكير، وفي بعضها باللام الجنسية، فيرجع إلى التنكير لا للعهد على ما ظنه العيني من كلام الكرماني الآتي في قوله: (ما كان النساء) فإنه قال هناك: واللام في (النساء): للعهد عن نساء الصحابة، لا عن (نساء) المذكور. انتهى.
          فظن العيني أن النساء هنا كذلك فقال: في قوله: (أن نساء): هكذا وقع في غالب النسخ وفي بعضها: (أن النساء): بالألف واللام وبدون اللام أعم حتى قال الكرماني: إن اللام للعهد عن نساء الصحابة.
          وأقول: بين الكلامين بون ظاهر، لا يخفى؛ فإن كان مستند العيني في إثبات نسخة هنا باللام كلام الكرماني، فقد علمت أنه لا يرى له، ولم ير نسخة بالألف واللام، وإن كان رأى نسخة كذلك، فينبغي جعل اللام فيها للجنس لتتفق النسختان، فعليك بالتأمل والإنصاف، ولا تسلك طريق الاستراح، والاعتساف.
          والنساء: اسم جمع لا واحد له من لفظه، والتنكير فيه للتنويع كما تقدم؛ أي: بعض النساء، وإن لم يكن صحابيات، بل الظاهر غيرهن، فلا وجه لاقتصار القسطلاني عليهن تبعاً للعيني؛ فإنه مبني على ما علمت ما فيه، وقد قدمنا أنها ترجع للتنكير، فتتفق النسختان لو فرض وجودها، فافهم.
          (يَدْعُونَ): النون فيه: ضمير عائد على (نساء)، وللكشميهني: <يدعين>: بالياء، وتقدم أنها لغة، وإن لم يذكرها صاحب ((المشارق)) و((المطالع)) فلا وجه لتنظير العيني في نسبتها للكشمهيني (بِالمَصَابِيحِ): جمع مصباح، وهو السراج كما في ((الصحاح)).
          وقال في ((القاموس)): بشعلة القنديل.
          أي: يأتون بها (مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ): أي: في جوفه، أو على أصلها (يَنْظُرْنَ فيالطُّهْرِ): أي: إلى ما يدل عليه من القطنة مثلاً، ويجوز بقاؤه على ظاهره إذا أريد به الماء الأبيض الذي يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض (فَقَالَتْ): أي: ابنة زيد بحسب ما بلغها؛ فإني لم أر من عدها في الصحابة بخلاف أختها أم سعد.
          نعم قول ((الفتح)): ولم أر لواحدة منهن رواية إلا لأم كلثوم مما يفيد ذلك
          (مَا كَانَ النِّسَاءُ): أي: نساء الصحابة، فاللام للعهد (يَصْنَعْنَ هَذَا): أي: الفعل المخصوص الدال على التشديد، ولذا قال: (وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ): أي: وعابته بحذف المفعول الراجع إلى اسم الإشارة.
          قال الكرماني: فإن قلت: لما عابت عليهن وفعلهن، يدل على حرصهم للطاعة ودخول وقتها؟ قلت: لأن فعلهن يقتضي الحرج، وهو مذموم، وكيف لا، وجوف الليل ليس إلا وقت الاستراحة؟
          وقال في ((الفتح)): وقيل: لكون ذلك كان في غير وقت الصلاة، وهو جوف الليل، وفيه نظر؛ لأنه وقت للعشاء، ويحتمل أن يكون العيب لكون الليل لا يتبين به البياض الخالص من غيره فيحسبن أنهن طهرن، وليس كذلك فيصلين قبل الطهر.
          وقال العيني: فيه نظر؛ لأنه لم يدل شيء أنه كان وقت العشاء؛ لأن طلب المصباح لا يكون غالباً إلا في شدة الظلمة، وشدتها لا تكون إلا في جوف الليل.
          وقال في ((الانتقاض)): كأن عنده أن وقت العشاء لا يمتد إلى الفجر، بل ولا إلى ربع الليل، ولا يشك أحد أن الليل قبل أن يمضي ربعه تشتد ظلمته، فما وجه الاعتراض. انتهى.
          فليتأمل، إذ يحتمل أن يريد أولاً وقت العشاء.
          وقال صاحب (التلويح): يشبه أن يكون ما بلغ ابنة زيد عن النساء كان في أيام الصيام لينظرن الطهر لنية الصوم؛ لأن الصلاة لذلك ليلاً؛ لأن وجوبها عليهن بعد طلوع / الفجر.
          وأقول: يرد عليه: أن فيه صلاة العشاء، كما مر، وما ذكره مالك في ((الموطأ)) قوله: يسألنها عن الصلاة.