الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {مخلقة وغير مخلقة}

          ░17▒ (بَابٌ: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]): ({مُخَلَّقَةٍ}): اسم مفعول من التخليق برفعه وجره إعراباً، أو حكاية لما في الآية على تنوين (باب)، وعدمه، فتدبر.
          وقال في ((الفتح)): رويناه بالإضافة؛ أي: باب: تفسير قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وبالتنوين، وتوجيهه ظاهر. انتهى.
          واعترضه العيني بما جوابه ظاهر لمن تدبر، فقال: ليت شعري، روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري، وكيف يقول: تفسير قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وليس في حديث الباب، وإنما فيه ذكر المضغة، وهي مخلقة، وغير مخلقة؟ انتهى.
          وأقول: سيأتي بيان وجه المطابقة، ويؤيد تقدير ((الفتح)) رواية للأصيلي بلفظ: <باب قول الله ╡: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}>، والحديث طبقها، و({مُخَلَّقَةٍ}) صفة: {مُّضْغَةٍ}، ومعناه: مضغة مسواة لا نقص فيها، ولا عيب، وغير مسواة أو تامة الخلق، وساقطة، أو مصورة وغير مصورة.
          وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والأصل: من مضغة غير مخلقة ومخلقة؛ فإنها تكون أولاً غير مخلقة، ثم تخلق، والواو لا تفيد ترتيباً.
          وقال الطبري بعد أن حكى لأهل التفسير أقوالاً: الصواب: قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه، وهو قول مجاهد، والشعبي، وغيرهما.
          وقيل: التقدير: باب / قوله صلعم: (مخلقة وغير مخلقة)، إشارة إلى نحو حديث، رواه الطبراني بسند صحيح إلى ابن مسعود، لكن حكمه الرفع قال: (إذا وضعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجها الرحم دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد صفة هذه النطفة، فينطلق فيجد صفتها في أم الكتاب).
          وقال العارف ابن أبي جمرة: جاء أن الحفظة إذا صعدت بعمل العبد يقول الحق سبحانه: اعرضوه على اللوح المحفوظ، فيوجد على حد سواء، والحكمة في ذلك، مع أن علمه في كل وقت لا يعزب عنه فعل الملك ولا غيره: أن هذا تعبد لله به الملائكة، والله يتعبد من خلقه من يشاء كيف شاء، ولحكم آخر لا تحصى.
          ثم قال في شرح حديث: (إن الله تعالى وكل بالرحم ملكاً، كما وكل بالمعدة ملكاً، وبالطعام ملكاً، وبالشراب ملكاً، ولكل حاسة من الحواس ملكاً): كما جاء في بعض الآثار: غير الشم، فما سمعت فيه شيئاً، ثم قال: وجاء أن الملك إذا جاء للتصوير نصب له سبعون من جدوده على ما رواه أبو داود، ثم يلقي الله سبحانه شبهه على من شاء منهم، فإذا فرغ من التصوير نادى الملك الموكل بالرحم، فيأتي ملك آخر بالأربع كلمات، فيجاوب المخبر عن كل واحدة واحدة، ويكتب، والكاتب هنا لا نعرفه، فلعله بعض الملائكة المذكورين أو غيرهم. وقد ذكر فوائد كثيرة في شرحه هنا فراجعه.
          والواو للتقسيم في الترجمة، كـ(أو) في هذا الحديث.
          وقيل: الترجمة إشارة إلى ما في حديث الباب من قوله: (يا رب مضغة)، والمضغة تكون مخلقة، وغير مخلقة.
          قال الكرماني: وأجمع العلماء أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولد تام الخلق، واختلفوا فيما لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال مالك: تكون بالمضغة أم ولد، وقال أبو حنيفة، والشافعي:إن تبين في المضغة شيء من إصبع، أو غيره فهي أم ولد.
          وقال ابن الملقن: وعلى مثل هذا انقضاء العدة.
          وقال ابن حجر المكي: وأما النطفة، فلا يدار عليها حكم، فلا يثبت بها أمية الولد، ولا تنقضي عدة، ولا يحرم التسبب إلى إلقائها بخلاف العلقة.
          وقال ابن المنير تبعاً لابن بطال: أدخل المصنف هذه الترجمة في أبواب الحيض لينبه بها على أن دم الحامل ليس بحيض؛ لأن الحمل إن تم كان الرحم مشغولاً به، وما ينفصل عنه من دم، إنما هو رشح غذائه أو فضلته أو نحو ذلك، فليس بحيض، وإن لم يتم، وكانت المضغة غير مخلقة، مجها الرحم مضغة مائعة حكمها حكم الولد، فكيف يكون حكم الولد حيضاً؟
          قال في ((الفتح)): وفي الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأنه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل هو السقط الذي لم يصور أن لا يكون الدم الذي تراه التي يستمر حملها ليس بحيض.
          وأقول: قد يشعر كلامه بأنه لا يلزم أن يكون مراد البخاري من الترجمة: أن الحامل لا تحيض لعدم دلالة الحديث على ذلك، بل مراده أمر آخر، وبذلك صرح الكوراني؛ فإنه قال: وليس في الآية، ولا في الحديث دلالة على ذلك، فالوجه: أن مراده: الدلالة على أن النطفة منها يخلق الولد، والوطء في حال الحيض حرام، فيجب الاجتناب عنه في حال الحيض لئلا ينعقد الولد من ذلك الفعل الحرام. انتهى.
          وما ادعاه المخالف من أنه رشح من الولد، أو من فضلة غذائه، أو دم فساد لعلة، فيحتاج إلى دليل؛ لأن هذا دم بصفات الحيض، وفي زمن إمكانه فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه فعليه البيان، وأما ما ورد في ذلك من أثر، أو خبر، فلم يثبت، نحو ما رواه ابن شاهين من قول علي، ومن قول ابن عباس: إن الله تعالى رفع الحيض عن الحامل، وجعل الدم رزقاً للولد مما تغيض الأرحام. انتهى.
          ثم قال: واستدل ابن المنير على أنه ليس بدم حيض، وبأن الملك موكل برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه قذر، ولا يلائمها ذلك، وأجيب: بأنه لا يلزم من كون الملك موكلاً به أن يكون حالاً فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأن الدم كله قذر.
          واعترض: بأن الدم في معدنه لا يوصف بالنجاسة، وإلا يلزم أن لا يوجد أحد طاهراً عن النجاسة.
          واعترض العيني قوله: فمن ادعى خلافه فعليه البيان، فقال: لنا في هذا الباب أحاديث:
          منها: ما في ((الصحيحين)) من حديث سالم عن أبيه: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي فقال: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء).
          ومنها: / ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة).
          ومنها: ما رواه أحمد، عن رويفع بن ثابت من أن رسول الله قال: (لا يحل لأحد أن يسق بمائه زرع غيره، ولا يقع على أمة حتى تحيض، أو يتبين حملها).
          ومن الأخبار: ما رواه ابن شاهين عن ابن عباس أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقا للولد.
          ومنها: ما رواه الأثرم والدارقطني بسندهما عن عائشة في الحامل ترى الدم فقالت: الحبلى لا تحيض، وتغتسل وتصلي. وقولها: تغتسل: استحباب لكونها مستحاضة، ولا يعرف عن غيرهم خلافه. انتهى.
          وقال ابن بطال: غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض: تقوية مذهب من يقول: إن الحامل لا تحيض؛ لأن اشتمال الرحم على الولد يمنع خروج دم الحيض، وقيل: لأنه يصير غذاء للجنين.
          وممن ذهب إلى أن الحامل لا تحيض: أبو حنيفة، وأصحابه، والكوفيون، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وابن المنذر، والثوري، وأبو عبيد، وعطاء، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن المنكدر، وجابر بن زيد، والشعبي، ومحكول، والزهري، والحكم، وحماد، والشافعي في القديم، والراجح عنده في الجديد: من أنها قد تحيض، وبه قال إسحاق ومالك في أحد قوليه، وهو الصحيح عنه، وحكي عن بعض المالكية:أنه كان في آخر الحمل، فليس بحيض. انتهى.
          وأقول: لينظر وجه دلالة الأول على ما ادعاه، ولعل وجهه: أنه لما أمره بمراجعته، وإمساكها حتى تطهر فيظن أنها ليست بحامل، إذ لو كانت كذلك لم تحض، فافهم.
          وأما الثاني: فقال فيه في ((الفتح)): وأقوى حججهم أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض، وأما الباقي من الأحاديث والآثار فليس بثابت، كما تقدم عن ((الفتح))، فتدبر.