الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت

          ░7▒ (بابٌ): بالتنوين (تَقْضِي): أي: تؤدي؛ لأن من معاني القضاء: الأداء (الحَائِضُ): أي: بالفعل (المَنَاسِكَ كُلَّهَا): أي: المتعلقة بالحج أو بالعمرة فروضاً كانت أو لا، كالسعي، والرمي، والوقوف بعرفة، والتلبية (إِلَّا الطَّوَافَ بِالبَيْتِ): ركناً كان أو لا، وما تبعه من صلاة الركعتين بعده لاشتراط الطهارة فيه من الحدث والخبث؛ لكونه بمنزلة الصلاة، وقيل: لأنها ممنوعة من اللبث في المسجد، كما سيأتي آخر الباب في كلام النووي.
          واعلم أن غرض البخاري / _كما قيل بهذه الترجمة، وما ذكر من الأحاديث والآثار_ أن الحيض وما في معناه لا ينافي العبادات كلها، بل تصح معه، وإن كانت بدنية، كالأذكار وغيرها، ومناسك الحج من جملة ما لا ينافيه إلا الطواف لا غير.
          ونظر صاحب ((الفتح)) في أن هذا مراده قال: لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا حاجة إلى الاستدلال عليه، والأحسن: ما قاله ابن رشيد تبعاً لابن بطال وغيره: من أن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة؛ لأنه صلعم لم يستثن من مناسك الحج إلا الطواف؛ لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر، وتلبية، ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فلذلك الجنب، بل أولى.
          ومنع القراءة إن كان لكونه ذكر الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان للتعبد فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره، مع أن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه، وتمسك البخاري ومن وافقه كالطبري، وابن المنذر، وداود بعموم حديث وصله مسلم عن عائشة: (كان يذكر الله على كل أحيانه)، والذكر أعم من القرآن، والفرق يبنهما عرفي. انتهى.
          وأقول: الأولى جعلها للأمرين معاً لصلاحية ما ذكره لهما، وورود النص بشيء لا ينافي الاستدلال له بغيره.
          وقال ابن بطال: هذا الباب كله مبني على مذهب من أجاز للحائض والجنب تلاوة القرآن، سواء كان البخاري متذهباً به أو حاكياً عن غيره
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ): أي: النخعي (لَا بَأْسَ): أي: لا حرج (أَنْ تَقْرَأَ): أي: الحائض المدلول عليها بالسياق (الآيَةَ): ونحوها كالآيتين؛ أي: لا أكثر منها.
          قال في ((الفتح)): وأورد أثر إبراهيم إشعاراً بأن منع الحائض من القراءة مجمعاً عليه، ووصله الدارمي وغيره عنه بلفظ: أربعة لا يقرؤون القرآن: الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام، إلا الآية ونحوها للجنب والحائض.
          وروي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروي عنه الجواز مطلقاً، والجواز للحائض دون الجنب، وقيل: إنه قول للشافعي في القديم.
          وأقول: تقدم أن الراجح من مذهب مالك الجواز للحائض والنفساء مطلقاً، دون الجنب.
          لكن قال المهلب: الواجب تنزيهه وترفيعه عمن لم يكن على أكمل أحوال الطهارة لقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ. مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14]. انتهى.
          وأن مذهبنا كالحنابلة والحنفية: التحريم مطلقاً إلا لضرورة كالفاتحة لفاقدة الطهورين بعد انقطاع دمها على الصحيح عندنا، وكذا تحل له أذكاره، بل وغيرها لا بقصد قرآن على الصحيح لأحاديث مقبولة تقدمت هناك إلا ما رواه الحاكم في (تاريخ نيسابور)؛ فإنه ضعيف، كالحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً)؛ فإنه ضعيف من سائر طرقه كما نبه على ذلك في ((الفتح)) والقسطلاني، وعليه: فليس هو بحجة على المالكية، ولا النخعي، ولا الطحاوي في إباحته بعض الآية، كما زعمه القسطلاني إلا أن يدعى أنه صار حسناً لغيره، فتأمل
          (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ): ☻ (بِالقِرَاءَةِ): متعلق بـ(بأساً) (لِلْجُنُبِ): متعلق بالقراءة (بَأْساً): مفعول (ير)، وقد وصله ابن المنذر عنه بلفظ: إن ابن عباس كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب فقيل له في ذلك فقال: ما في جوفي أكثر منه.
          وأقول: مقتضى هذا الجواب: أن الحائض والنفساء عنده كذلك، ويحتمل الفرق، ولم أقف على مذهبه فيهما.
          (وَكَانَ النَّبِيُّ صلعم يَذْكُرُ اللَّهَ): يفيد أن ذلك عادته؛ أي: بالقرآن وغيره ليطابق دعواه، ويحتمل تخصيصه بغير القرآن، فلا مطابقة حينئذ (عَلَى): أي: في كقوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص:15] (كُلِّ أَحْيَانِهِ): جمع حين؛ أي: يذكر الله ╡ في سائر أوقاته من غير فرق بين وقت الجنابة وغيره. وهذا التعليق وصله مسلم عن عائشة ويروى: (على كل أحواله).
          قال ابن الملقن: قال الطبري في ((تهذيبه)): الصواب: أن ما روي عنه صلعم من ذكر الله ╡، وأنه كان يقرأ ما لم يكن جنباً؛ أي: قراءته طاهراً اختيار منه لأفضل الحالين، والحالة الأخرى: أراد تعليم الأمة، وأن ذلك جائز لهم غير محظور عليهم: الذكر وقراءة القرآن.
          وقال غيره: هو أصل في جواز الذكر بالتسبيح والتهليل وشبههما من الأذكار وكأنه إجماع، إنما الخلاف في القراءة، فيكون الحديث مخصوصاً بما سوى / هذه الأحوال. انتهى.
          (وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ): بفتح العين وكسر الطاء المهملتين وتشديد التحتية وبهاء، واسمها نسيبة مصغراً وقيل: مكبراً كما في (الإصابة)، وتعليقها: وصله المؤلف في العيدين بلفظ: (كُنَّا نُؤْمَرُ): أي: في زمن رسول الله، فحكمه الرفع (أَنْ يَخْرُجَ): بفتح التحتية على ما في القسطلاني لغير أبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، ولهم: بنون مضمومة وترك تأنيثه؛ لأن فاعله جمع تكسير، وإن كان مؤنثاً فعلى الأول: (الحُيَّضُ): بتشديد التحتية وضم الحاء: فاعله، وعلى الثاني: مفعوله هذا، وضبط في ((المصابيح)):(يُخرَج): بالبناء للمفعول، وفي (المنحة): بتاء فوقية مفتوحة وضم الراء، وعليهما: فالحيض: مرفوع فاعل أو نائب عنه؛ أي: إلى مصلى العيد، وننعزل في جانب عن الرجال (فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ): قال الكرماني: معطوف على (كنا).
          وأقول: يحتمل عطفه على (يخرج) وهو أقرب، والباء: بمعنى مع أو للسببية (وَيَدْعُونَ): بفتح التحتية وسكون الدال وبالواو بعد العين لأكثر الرواة من دعا يدعو، والواو: لام الفعل المبني على السكون لاتصاله بنون النسوة فوزنه: يفعلْن، وللكشميهني: <يدعين>: بتحتية بدل الواو، قاله في ((الفتح)) مع زيادة.
          واعترضه العيني فقال: هذا الذي ذكره مخالف لقواعد التصريف؛ لأن هذه الصيغة معتلة اللام من ذوات الواو، ويستوي فيها جماعة الذكور والإناث في الخطاب والغيبة جميعاً، وفي التقدير مختلف.
          وأقول: هو لغة، وإن كانت قليلة ففي ((القاموس)): دعيت: لغة في دعوت. انتهى.
          وعليه: فلا اعتراض على أنه ناقل عن غيره، فافهم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ): مما وصله المؤلف مطولاً في بدء الوحي في قصة هرقل (أَخْبَرَنِي): بالإفراد (أَبُو سُفْيَانَ): أي: صخر بن حرب (أَنَّ هِرَقْلَ): بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، وحكي سكون الراء وكسر القاف: عظيم الروم (دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلعم): أي: بالمكتوب الذي أرسله إليه يدعوه فيه إلى الإيمان (فَقَرَأَه): بالضمير، وفي أكثر النسخ: بحذفه؛ أي: فأمر هرقل بقراءة الكتاب، أو قرأه بنفسه (فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَ: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ}): بزيادة الواو للقابسي، والنسفي، وعبدوس، وسقطت لأبي ذر، والأصيلي.
          قال صاحب ((المشارق)): وهو الصواب.
          قال في ((الفتح)): فأفهم أن الأولى خطأ لكونها مخالفة للتلاوة، وليست خطأ، وقدمت توجيه إثبات الواو في بدء الوحي.
          وأقول: منه: أنها عاطفة لمقدر على أدعوك، والتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأتلو عليك: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ} قالوا: وليست من التلاوة
          ({تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} [آل عمران:64] الآيَةَ): والآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
          فالكتاب يشتمل على آية لا آيتين كما في ((فتح الباري))، فتأمل.
          وتقدم الكلام على الآية، والكتاب في بدء الوحي مستوفى، والغرض من إيرادها هنا: الاستدلال على جواز القراءة للجنب، بل والمس للقرآن؛ لأنه إنما كتب لهم ليقرؤوه وهم كفار، والكافر جنب فاستلزم جواز القراءة للجنب نصاً لا استنباطاً.
          وأجيب: بأن الكتاب اشتمل على غير الآيتين مما هو أكثر منه فأشبه ما لو كان بعض القرآن في كتاب فقه أو تفسير؛ فإنه لا يمتنع من قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد: على أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين؛ قاله في ((الفتح)).
          ثم قال: وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أنه قرآن.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح، مما وصله المؤلف في كتاب الأحكام وفي آخره: (غير أنها لا تطوف بالبيت) ولفظه هنا: (عَنْ جَابِرٍ): ☺ أنه قال: (حَاضَتْ عَائشَةُ فَنَسَكَتِ): بفتح النون والسين؛ أي: فعلت (المَنَاسِكَ): المتعلقة بالحج (كلها): سقطت لغير الأصيلي (غَيْرَ الطَّوَافِ بالبَيْتِ): والمناسك: جمع منسك _بفتح السين وكسرها_ وهو التعبد، فهو مصدر، ويطلق أيضاً على الزمان والمكان من النسيكة وهو الذبيحة، وكلما تقرب به إلى الله تعالى، وخصص العرف المناسك بأمور الحج.
          وجملة: (ولا تُصَلِّي): حالية من فاعل: نسكت.
          قال الكرماني: ولعل فائدة ذكره: بيان أني عرفت حيضها بتركها الصلاة، وهو الظاهر.
          وأقول: وعليه: فهو من كلام / جابر.
          وقال ابن الملقن: (ولا تصلي): يحتمل أن يكون من كلام عطاء، ويحتمل أن يكون من كلام البخاري
          (وقالَ الحَكَمُ): بفتحتين؛ أي: ابن عُتيبة _مصغر عتبة: بالتاء الفوقية_ وهذا التعليق وصله البغوي في (الجعديات) (إنِّي لَأَذْبَحُ): أي: الذبيحة (وأَنَا جُنُبٌ): أي: والذبح يستلزم ذكر الله تعالى (وقالَ اللهُ): بالواو، والظاهر: أنها حال ثانية مترادفة أو متداخلة (╡: {ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]): وسيأتي الكلام على الآية إن شاء الله في كتاب الذبائح.
          وقال الكرماني _وتبعه كثيرون_ المراد منها: ولا تذبحوا، باتفاق المفسرين.
          وأقول: لا يظهر عليه ذكر من، مع أن في نقله الاتفاق شيء اختلاف العلماء في ذلك.
          قال البيضاوي: وظاهر الآية تحريم متروك التسمية عمداً أو نسياناً، وإليه ذهب داود، وعن أحمد: مثله، وقال مالك، والشافعي بخلافه لقوله صلعم: (ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله)، وفرق أبو حنيفة بين العمد والنسيان وأولوه بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه وسلم لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [المائدة:121]؛ فإن الفسق: ما أهل به لغير الله تعالى. انتهى.
          وأقول: نقل الخفاجي عن صاحب (الانتصاف) وهو مالكي: أن مذهب مالك يوافق مذهب أبي حنيفة، وأما هذا فرواية شاذة عن أشهب، ونقل أيضاً: أن هذا خاص بالحيوان، أما غيره: فحلال، وإن لم يسم الله عليه عند الجميع إلا عطاء وطاووساً؛ فإنهما يقولان: بأن متروك التسمية حرام مطلقاً، وإن كان من غير الحيوان.
          وجه الدلالة من قول الحكم: أن الذبح مستلزم لذكر الله تعالى بحكم الآية التي ساقها، قاله في ((الفتح)).