الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كيف كان بدء الحيض

          ░1▒ (بَابٌ): يجري في الباب، وفي قوله: (كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الحَيْضِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم): نظير ما تقدم من الكلام على قوله: باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم وقول الله ╡، فراجعه (هَذَا): أي: الحيض (شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ): أي: أمر قدره تعالى (عَلَى بَنَاتِ آدَمَ): لأنه من أصل خلقتهن الذي فيه صلاحهن، ويدل له ما قيل في تفسير قوله تعالى: / {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90]: بأصلحناها للولادة برد الحيض إليها بعد عقرها.
          وقال في ((الفتح)): يشير بهذا إلى حديث عائشة المذكور عقبه.
          واعترضه العيني فقال: هذا الكلام غير صحيح؛ لأن قوله صلعم:(هذا شيء): يشير به إلى الحيض الآتي في الباب السادس، لكنه بلفظ: (فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم) لا قول البخاري يشير به إلى حديث عائشة، وعلى كل تقدير الإشارة بقوله: (هذا) إلى الحيض. انتهى.
          وأقول: لم يرد بهذا لفظها ولا أراد بها الحديث المتعلق بالحيض الذي هو قول النبي، بل أراد ((الفتح)): أن التعليق المقول فيه الحديث أشار به البخاري إلى الموصول الآتي لا إشارة النبي، كما ظن العيني، أشار إلى ذلك في ((الانتقاض)) وهذا ظاهر لا يخفى على منصف، فتدبر وهن حقيقة في الصلبيات، لكن صار بحسب العرف أعم من ذلك، قاله الكرماني.
          وأقول: وينبغي دخول حواء فيهن؛ لأنها خلقت من ضلعه الأيسر. و
          قد وصل هذا التعليق المصنف بعد خمسة أبواب أو ستة، قاله في ((الفتح)).
          واعترضه البرماوي فقال: كذا قاله بعض العصريين، وليس في الباب المذكور (شيء)، بل هو الحديث الذي أورده البخاري هنا فلا حاجة لادعاء وصله بموضع آخر، نعم لفظه هناك:(أمر) بدل:(شيء) فشيء: إما رواية بالمعنى، وإما أنه مروي أيضاً. انتهى.
          وأقول: لا وجه لاعتراضه فإنه هنا معلق وهناك موصول فذكر سنده، فهذا كاف في الفائدة التي تجري في سائر التعاليق، فكيف إذا انضاف إلى ذلك أنه هنا كما في أثناء حديث، وفيه بعض اختلاف (فإن ذلك شيء) بدل:(فإن هذا شيء)؟ فتأمل.
          وروى الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس: أن ابتداء الحيض كان على حواء ♀ بعد أن أهبطت من الجنة، قيل في سببه: أنها لما كسرت شجرة الحنطة التي أكلت منها كآدم أدمتها، فقال الله تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لأدمينك كما أدميت الشجرة).
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ): هو عبد الله بن مسعود وعائشة، فقد وصل هذا التعليق بمعناه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن مسعود بلفظ: (كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعاً، فكانت المرأة تتشوف للرجل فألقى الله عليهن الحيض ومنعنهن المساجد)، وعنده أيضاً عن عائشة نحوه.
          (كَانَ أَوَّلُ): بالرفع اسم (كان) (مَا): مصدرية (أُرْسِلَ): مبني للمفعول (الحَيْضُ): نائب فاعله (عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ): خبر (كان)، وإرسال الحيض على بني إسرائيل صادق بإرساله على نسائهم أو هو على حذف مضاف؛ أي: بنات بني إسرائيل، أو يراد بهم: أولاد إسرائيل كما يراد من بني آدم أولاده، أو يراد بهم القبيلة، فلا يرد: أن الحيض إنما أرسل على الإناث دون الذكور، ولا وجه لاعتراض العيني على الجوابين الأخيرين، ذكرهما الكرماني لمن تأمل وأنصف.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): أي: البخاري، وسقط لغير أبوي ذر والوقت، وابن عساكر (وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلعم): وهو:(هذا شيء _أو أمر_ كتبه الله على بنات آدم) (أَكْثَرُ): بالمثلثة، وقال الكرماني: وفي بعضها: (أكبر) بالموحدة؛ أي: أعظم مراعاة واعتباراً من غيره، وأما بالمثلثة بمعناه؛ أي: أشمل من قول هذا البعض؛ لأنه عام في جميع بنات آدم الإسرائيليات وغيرهن، أو أكثر شواهد أو أكثر قوة.
          وقال الداودي: ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم.
          قال في ((الفتح)): فعليه:(بنات آدم): عام أريد به الخصوص.
          واعترضه العيني فقال: كيف يجوز تخصيص عموم كلام النبي صلعم بكلام غيره؟
          وأجاب في ((الانتقاض)): فقال: إنما قال تحسيناً للظن بالداودي أن له فيما ذكر مستنداً، فيكون من هذا الباب، ثم أثبت ما نفاه بقوله: ظهر لي..إلخ، فإن فيه تخصيص العموم بكلام غيره.
          ورد كلام الداودي في ((المصابيح)) فقال: المخالفة بينهما ظاهرة، فإن هذا القول يقتضي أن غير نساء بني إسرائيل لم يرسل عليهن الحيض، والحديث ظاهر في أن جميع بنات آدم كتب عليهن الحيض إسرائيليات كن أو غيرهن، نعم لو حمل حديث هذا القول على أن المراد بإرسال الحيض: إرسال حكمه بمعنى: أن كون الحيض مانعاً ابتدئ به الإسرائيليات، وحمل الحديث على قضاء الله على بنات آدم بوجود الحيض _كما هو الظاهر منه_ لم يكن ثمة مخالفة، فتأمله.
          وقال في ((الفتح)): ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتعميم: بأن الذي أرسل على بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء وجوده، وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره: أن قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71]: أي: حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب.
          واعترضه العيني فقال: هذا كلام من لا يذوق المعنى، / وكيف يقول: لا ابتداء لوجوده والخبر فيه: (أول ما أرسل) وبينه وبين كلامه منافاة؟ وأيضاً: أين ورد أن الحيض طال مكثه في بني إسرائيل ومن نقل هذا؟ ثم قال: ولقد حضرني جواب في التوفيق من الأنوار الإلهية وهو: أن الله تعالى قطع حيض نساء بني إسرائيل عقوبة لهن ولأزواجهن لكثرة عنادهم، ومضت على ذلك مدة، ثم إن الله تعالى رحمهم وأعاد حيض نسائهم؛ لأن من حكمة الله أن جعل الحيض سبباً لوجود النسل، ألا ترى أن المرأة إذا ارتفع حيضها لا تحمل عادة؟ فلما أعاده عليهن كان ذلك أول الحيض بالنسبة إلى مدة الانقطاع، فأطلق الأولية عليه بهذا الاعتبار؛ لأنها من الأمور النسيبة.
          وأقول: يرد عليه نظير ما أورده على ((الفتح)) من أنه أين ورد ذلك ومن نقله؟ فإن قال:إنه مجرد احتمال فيقال مثله في كلام ((الفتح)) ولم يقل فيه: لا ابتداء لوجوده، بل قال لا ابتداء وجوده، ولئن سلم فليس بين الخبر وبين كلامه منافاة؛ لأنه إذا حمل أولية الإرسال على أوليته باعتبار طول مكثه لم يبق بينهما منافاة.
          ثم رأيته في ((الانتقاض)) قال: فيقال عليه: وفي أين ورد أن الحيض انقطع عن نساء بني إسرائيل مدة ثم عاد؟ ومن نقل هذا؟ فاعجب مما يأتي به لاسيما مع قرب العهد، فتأمل، وأنصف.