الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إثم من عاهد ثم غدر

          ░17▒ (باب إِثْمِ) أي: بيانِ تأثيمِ (مَنْ عَاهَدَ) أي: غيرَه من مسلمٍ أو ذميٍّ (ثُمَّ غَدَرَ) بفتحات؛ أي: نقضَ عهدَه، لكن محَلُّه: ما لم يظهَرْ منه أماراتٌ؛ لِما مرَّ آنفاً من قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} فالغدرُ بغيرِ سببٍ حرامٌ اتفاقاً، بل هو من الكبائر.
          (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ، ويجوز الرفعُ، ولأبي ذرٍّ: <وقولِ الله> (تعالى) أي: في أواخر سورةِ الأنفال، فهذه رابعُ آيةٍ منها استدلَّ بها البخاريُّ لمطلوبِه في كلِّ بابٍ بما يناسِبُه، فقال: ({الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} [الأنفال:56]) الاسمُ الموصولُ بدَلٌ من: {الَّذِينَ كَفَرُوا} بدلُ بعضٍ من كلٍّ للبيان والتخصيص، والمرادُ بهم: يهودُ بني قُريظةَ، عاهدَهم رسولُ الله صلعم أن لا يُعينوا عليه أحداً من أعدائه، فأعانوا المشركين بالسلاح، وقالوا: نسينا، ثم عاهدَهم ثانياً، فغدروا وأعانوا عليه صلعم يومَ الخندَقِ، وركبَ كعبُ بنُ الأشرفِ إلى مكَّةَ، فحالفَ أهلَها على مُعاداةِ رسولِ الله، و{مِنْهُمْ} متعلِّقٌ بـ{عَاهَدْتَ} وعدَّاه بـ{مِن} لتضمُّنِه معنى: أخذتَ، وقال البغَويُّ: {عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} يعني: عاهدتَهم، وقيل: عاهدتَ معَهم، وقيل: أدخلَ {مِن} لأنَّ معناه: أخذتَ منهم العهدَ، انتهى.
          وفي قوله: ({ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ}) إشارةٌ إلى تراخي نقضِ العهدِ منهم ({فِي كُلِّ مَرَّةٍ}) قال البَيضاويُّ: المرادُ بالمرَّةِ مرَّةُ المعاهَدةِ أو المحارَبةِ، وجملةُ: ({وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}) حاليةٌ؛ أي: لا يخافون اللهَ في نقضِ العهدِ، أو لا يتَّقون الله في نُصرةِ المؤمنين وتسليطِه على الكافرين، وقال في ((الكشاف)): أو: لا يخافونَ عاقِبةَ الغَدرِ، ولا يُبالون بما فيه من العارِ والنار، انتهى.
          ولأبي ذرٍّ بعد قولِه: {فِي كُلِّ مَرَّةٍ}: <الآيةَ> وأسقطَ: <{وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}>.