الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره وإثم من لم يف

          ░12▒ (باب الْمُوَادَعَةِ) بفتحِ الدالِ المهملةِ؛ وهي: المسالَمةُ على تَركِ الحربِ والأذى، فقولُه: (وَالْمُصَالَحَةِ) عطفٌ على ((الموادعة)) عطفُ تفسيرٍ، وقوله: (مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ) أي: من المسلمين للكافرين، لكن بشَرطِه الآتي (وَغَيْرِهِ) أي: كالأسرى، متعلِّقٌ بأحَدِ الوصفَين على سبيلِ التنازُعِ، وثبت في بعض النُّسَخ زيادة: <وفضلِ الوفاءِ بالعهدِ> والأَولى إسقاطُه هنا؛ لأنَّه ترجمَه ببابٍ عَقِبَ هذا الباب، فتأمَّلْ.
          (وَإِثْمِ) عطفٌ على ((الموادعةِ))؛ أي: وبيانِ تأثيمِ (مَنْ لَمْ يَفِ) مجزومٌ بحذف الياء، من: وَفى يَفي _بفتحِ الياء_، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <يُوفِ> بضمِّ أوله وثبوت واو بعده ساكنة، وهو مجزومٌ أيضاً بحذف الياءِ من آخرِه (بِالْعَهْدِ) أي: بالأمان.
          (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ، عطفٌ على ((الموادعة)) وسقط لفظُه وحدَه لأبي ذرٍّ ({وَإِنْ جَنَحُوا}) أي: المشركون؛ أي: مالوا ({لِلسَّلْمِ}) بكسرِ السِّين وفتحِها؛ بمعنى: الصُّلح، قاله أبو عُبيدةَ، وقال أبو عَمرٍو: بالفتح: الصُّلح، وبالكسر: الإسلامُ، ولأبي ذرٍّ: <{وَإِنْ جَنَحُوا} طلَبوا السَّلمَ> وفي بعض الأصول: <{وَإِنْ جَنَحُوا للسَّلمِ} طلَبُوا> وفي بعض الأصول تأخيرُ: <طلَبوا للسَّلمِ> عن قوله: <{فَاجْنَحْ لَهَا}> وهذا التفسيرُ من البخاري.
          ({فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61]) أي: للسَّلم؛ لكَونِه بمعنى المصالحة المفهومةِ من {السَّلم} زاد ابنُ عساكرَ: <{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}> ولغير أبي ذرٍّ وابنِ عساكِرَ بعد قوله: {فَاجْنَحْ لَهَا}: <الآيةَ>.
          وقال البَيضاويُّ: {وَإِنْ جَنَحُوا} أي: مالوا، ومنه: الجناح، وقد يعدَّى باللام، وإلى السَّلم؛ أي: للصُّلحِ والاستسلام، وقرأ أبو بكرٍ بالكسر {فَاجْنَحْ لَهَا} أي: فعاهِدْ معهم، وتأنيثُ الضميرِ لحَملِ الضميرِ على نقيضِها فيه، قال:
السِّلمُ تأخُذُ منْهَا مَا رَضِيْتَ بِهِ                     والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جزَعُ
          وقد قُرئ: ▬فاجنُحْ لها↨ بالضمِّ {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: ولا تخَفْ من إبطانِهم خِداعاً فيه، فإنَّ اللهَ يعصِمُك من مَكرِهم، ويحيقُ بهم {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بنيَّاتِهم.
          والآيةُ مخصوصةٌ بأهل الكتاب لاتِّصالِها بقصَّتِهم، وقيل: عامةٌ نسخَتْها آيةُ السيف.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): معنى الشَّرطِ في الآيةِ أنَّ الأمرَ بالصُّلحِ مقيَّدٌ بما إذا كان الأحظُّ للإسلام المصالحةَ، أما إذا كان الإسلامُ ظاهراً على الكفرِ، ولم تظهَرِ المصلحةُ في المصالَحة، فَلا.