الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الوصايا بأهل ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ░3▒ (باب الْوَصَاة) كذا لأبي ذرٍّ _بفتحِ الواو والصاد المهملةِ وهاء تأنيث بعد الألف_ بمعنى: الوصيَّةِ، ولغير أبي ذرٍّ: <الوصايا> بالجمع.
          قال الجوهريُّ: أوصَيتُ له بشيءٍ، وأوصَيتُ إليه؛ إذا جعلتَه وصيَّك، والاسمُ: الوِصايةُ _بكسرِ الواو وفتحِها_، وأوصَيتُه ووَصَّيتُه أيضاً تَوصِيةً، والاسمُ: الوَصاةُ، انتهى.
          ومثلُها: الوصيَّةُ، كما في ((الفتح)).
          (بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بـ((الوَصاة))، و((ذِمَّةِ رسولِ الله)) بكسرِ الذال المعجمةِ وتشديد الميمِ؛ أي: الذين دخلوا في عهدِه وأمانِه، وأصلُها العهدُ؛ أي: عقدُ نفسِه، كما قال البخاريُّ، كقولِه: (وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ) وقال العينيُّ: فسَّرَ المصنِّفُ الذِّمةَ بالعهدِ، وتجيءُ أيضاً بمعنى: الأمانِ والضَّمانِ والحُرمةِ والحقِّ، وسُمِّيَ الذِّمِّيونَ ذِمَّةً؛ لدخولِهم في عهدِ المسلمينَ وأمانِهم.
          (وَالإِلُّ) بكسرِ الهمزةِ وتشديد اللام وقد تفتح الهمزةِ، وقال شيخُ الإسلامِ: وأما بفتحِ الهمزةِ فهو: الشِّدَّةُ (الْقَرَابَةُ) بفتحِ القاف؛ أي: الأقرباءُ، لا مصدَرٌ.
          قال في ((الفتح)) هذا تفسيرُ الضحَّاكِ في قولِهِ تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً} [التوبة:8] وهو كقول الشاعرِ:
وأشهدَ أنِّي إلَّك من قُريشٍ                     كإلِّ السَّقبِ من رَأْلِ النَّعامِ
          قال: وقال أبو عبيدةَ في ((المجاز)): الإلُّ: العقدُ والميثاقُ واليمينُ، ومجازُ الذِّمَّةِ: التذَمُّمُ، والجمعُ: ذِممٌ.
          وقال غيرُه: يُطلقُ الإلُّ أيضاً على العهدِ وعلى الجِوارِ، قال: وعن مجاهدٍ: الإلُّ هو اللهُ، وأنكرَه عليه غيرُ واحدٍ، انتهى.
          وقال العينيُّ: وقيل: الإلُّ: الأصلُ الجيدُ، والإلُّ: الشدَّةُ، وقدَّمَ / المصنِّفُ تفسيرَ الذِّمَّةِ لأنَّها الواقعةُ في الترجمةِ، وإلا فالإلُّ مقدَّمٌ عليها في التِّلاوةِ، وهما في سورةِ براءةَ، وتفسيرُهما بما ذكرَه هو أخذُ ما قيلَ فيهما، كما تقدَّم في كلامِ ((الفتحِ)).
          وقال البيضاويُّ في تفسيرِ قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً} [التوبة:8] أي: وما لهم أنهم إن ظفِروا بكم لا يُراعُوا فيكم حِلْفاً، وقيل: قَرابةً، وأنشدَ البيتَ السابقَ، ونسَبَه لحسَّانَ ☺، وأنشَدَ صدرَه بلفظِ: لَعمرُكَ، بدَلَ: وأشهَدُ، ثم قال: وقيل: ربوبيةً، ولعله اشتقَّ الحِلفَ من الإلِّ؛ وهو: الجِوارُ؛ لأنهم كانوا إذا تحالَفُوا يرفعوا أصواتَهم وشهَرُوه، ثم استُعيرَ للقرابةِ؛ لأنَّها تعقِدُ بين الأقاربِ ما لا يعقِدُه الحِلفُ، ثم للرُّبوبيةِ والتربيةِ، وقيل: من: ألَّلَ الشَّيءَ؛ إذا حدَّدَه، أو من: ألَّ البرقُ؛ إذا لمَعَ.
          وقيل: إنه عِبريٌّ بمعنى: الإلهِ؛ لأنَّه قُرئ: ▬إيلا↨ كـ▬جِبرائيلَ↨ و{جِبْرِيلُ}، {وَلَا ذِمَّةً}؛ أي: عهداً، أو حقًّا يُعابُ على إغفالِهِ، انتهى.
          ثم قال تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً} قال البيضاويُّ: هو تفسيرٌ لا تكريرٌ، وقيل: الأولُ عامٌّ في المنافقين، وهذا خاصٌّ بالذين اشترَوا؛ وهم: اليهودُ، أو الأعرابُ الذين جمعَهم أبو سُفيانَ وأطعَمَهم، انتهى.