الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء

          3158- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) أي: الحكمُ بنُ نافعٍ، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) أي: ابنُ أبي حمزةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) هو: محمدُ / بنُ مسلمٍ، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفرادِ (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أي: ابنِ العوَّام (عَنِ الْمِسْوَرِ) بكسرِ الميم وفتحِ الواو (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميمين والرَّاء.
          (أَنَّهُ) أي: المسوَرَ (أَخْبَرَهُ) أي: أخبرَ عُروةَ (أَنَّ) بفتحِ الهمزةِ (عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ) بالفاءِ وبفتحِ العينِ في الاسمَين، ويقال فيه: عُميرٌ _بالتصغيرِ_، وفرَّقَ العسكريُّ بين عُميرِ بنِ عوفٍ وعمرِو بنِ عوفٍ، والصوابُ الوحدةُ، قاله في ((فتحِ الباري)).
          (الأَنْصَارِيَّ) بالنصبِ، قال في ((الفتح)): المعروفُ عند أهلِ المغازي؛ أي: كابنَي إسحاقَ وسعدٍ أنه من المهاجرين، وهو موافقٌ لقولِهِ هنا.
          (وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ) بضمِّ اللام فهمزةٌ مفتوحةٌ فتحتيَّة مشدَّدة، فإنه يُشعرُ بكونه من أهلِ مكَّة، قال: ويحتمِلُ أن يكونَ وصفُه بالأنصاريِّ بالمعنى الأعمِّ، ولا مانعَ أن يكونَ أصلُه من الأوسِ والخزرجِ، ونزَلَ مكةَ وحالَفَ بعضَ أهلها، وبهذا الاعتبارِ يكونُ أنصاريًّا مهاجريًّا.
          قال: ثم ظهرَ لي أنَّ لفظةَ ((الأنصاريَّ)) وهمٌ، وقد تفرَّدَ بها شعيبٌ عن الزُّهريِّ، ورواه أصحابُ الزُّهريِّ كلُّهم عنه رواها في ((الصحيحينِ)) وغيرِهما، وهو معدودٌ في أهلِ بدرٍ باتِّفاقِهم، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ أولاً في قولِهِ: وهو موافقٌ لقولِهِ: ((وهو حَليفٌ لبني عامرِ بنِ لؤيٍّ)) بأنه لا يُقطعُ به أنَّه من المهاجِرينَ، وثانياً في قوله: ((ثم ظهَرَ لي)) إلى قولِهِ: ((ورواه أصحابُ الزُّهريِّ...)) إلخ، فقال: هذا أيضاً لا يُجزمُ به أنه من المهاجرينَ، انتهى.
          وفيه أنَّ صاحبَ ((الفتحِ)) لم يقطَعْ في الأولِ، فتأمَّل.
          وجملة: (وَكَانَ) أي: عمرُو بنُ عوفٍ (شَهِدَ بَدْراً) حاليةٌ كسابقتِها، أو معترضةٌ بين اسمِ ((أنَّ)) السابقِ وخبرِها في قولِه: (أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ) بضمِّ العينِ (ابْنَ الْجَرَّاحِ ☺) اشتُهرَ بنسبتِه لجدِّه وإلا فهو عامرُ بنُ عبدِ الله بنِ الجرَّاحِ، أمينُ هذه الأمَّةِ (إِلَى الْبَحْرَيْنِ) هو في الأصل: تثنيةُ: بحرٍ، ثم سمى به البلدةَ المشهورةَ بالعراقِ بين البَصرةِ وهَجَرَ (يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا) أي: بجِزيةِ أهلِها، وكان غالبُ أهلِها يومئذٍ المجوسَ.
          ففيه تقويةُ الحديثِ الذي قبله، ولذا ترجَمَ عليه النَّسائيُّ بأخذِ الجِزيةِ من المجوسِ.
          وذكر ابنُ سعدٍ أنَّ النبيَّ صلعم أرسَلَ العلاءَ بنَ الحضرَميِّ بعد قِسمةِ الغنائمِ بالجعِرَّانةِ إلى المنذِرِ بنِ ساوى عاملِ الفُرسِ على البحرَينِ يدعوه إلى الإسلامِ، فأسلمَ وصالحَ مجوسَ تلك البلادِ على الجزيةِ.
          وهذا المرادُ من قوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ) وفي بعضِ النُّسخِ: <وكان النبيُّ> (صلعم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ) زاد: ((هو)) تأكيداً، وكانتِ المصالحةُ سنةَ الوُفودِ سنةَ تسعٍ من الهجرةِ.
          (وَأَمَّرَ) بفتحِ الميم المشدَّدة؛ أي: النبيُّ صلعم (عَلَيْهِمُ) أي: على أهلِ البحرَينِ (الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ) بفتحِ الحاء المهملةِ وسكون الضَّاد المعجمةِ، نسبةً إلى الجزءِ الأولِ من حضرَمَوتَ، قدِمَ مكَّةَ، فحالَفَ بها بني مخزومٍ، والعلاءُ هذا بفتحِ العينِ المهملةِ وتخفيف اللام ممدودٌ، صحابيٌّ شهيرٌ، واسمُ أبيه الحَضرَميِّ: عبدُ الله، وهو: ابنُ مالكِ بنِ رَبيعةَ، وقيل: كان اسمُه في الجاهليةِ: زَهرَمزَ.
          ففي كتابِ ((مكَّةَ)) لعمرَ بنِ شبَّةَ كما في ((الفتح)) أنَّ كِسرى لمَّا أغارَ بنو تميمٍ وبنو شيبانَ على مالِهِ، أرسلَ إليهم عسكَراً عليهم زهرَمزَ، فكانت وَقعةُ ذي قارٍ، فقتَلُوا الفُرسَ وأسَرُوا أميرَهم، فاشتراه / صخرُ بنُ رَزينٍ الدَّيليُّ، فسرَقَه منه رجلٌ من حَضرَمَوتَ، فتبِعَه صخرٌ حتى افتداه منه، فقدِمَ به مكَّةَ، وكان صنَّاعاً، فعتَقَه وأقامَ بمكَّةَ ووُلدَ له أولادٌ نجباءُ، وتزوَّجَ أبو سفيانَ ابنتَه الصَّعبةَ، فصارَتْ دعواهُم في آلِ حربٍ، ثم تزوَّجَها عبيدُ الله بنُ عثمانَ والدُ طلحةَ، أحدِ العشَرةِ، فوُلدَت له طلحةَ.
          قال: وقال غيرُ عبدِ العزيزِ بنِ عمرانَ أنَّ كُلثومَ بنَ رزنٍ أو أخاه الأسوَدَ خرَجَ تاجراً، فرأى بحضرَمَوتَ عبداً فارسياً نجَّاراً يُقالُ له: زَهرَمزَ، فقدِمَ به مكَّةَ، ثم اشتراه من مولاه، وكان حِميَرياً يُكنى أبا رِفاعةَ، فأقامَ بمكَّةَ، فصارَ يقالُ له: الحَضرميُّ حتى غلَبَ على اسمِه، فجاوَرَ أبا سفيانَ وانقطَعَ إليه، وكان آلُ رزنٍ حُلفاءَ لحربِ بنِ أميَّةَ، وأسلمَ العلاءُ قديماً، وماتَ الثلاثةُ المذكورون: أبو عُبيدةَ والعلاءُ باليمنِ، وعمرُو بنُ عوفٍ في خلافةِ عمرَ بنِ الخطابِ ♥.
          (فَقَدِمَ) بكسرِ الدالِ (أَبُو عُبَيْدَةَ) أي: ابنِ الجرَّاحِ ☺ (بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ) وكان كما رواه ابنُ أبي شيبةَ عن حُميدِ بنِ هلالٍ مائةَ ألفٍ، وهو أولُ خراجٍ قدِمَ به عليه.
          وتقدمَ في كتابِ الصلاةِ بأبسطَ، وأعطى العبَّاسَ عمَّ رسولِ الله صلعم منه.
          (فَسَمِعَتْ) بكسرِ الميمِ وسكون التاء (الأَنْصَارُ) ♥ (بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ) أي: وبالمالِ معه (فَوَافَتْ) بالفاء، من: الموافاةِ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <فوافقَتْ> بزيادة قاف، من: الموافَقةِ، ولابنِ عساكرَ: <فوافق> بالقافِ أيضاً، لكن بتركِ تاءِ التأنيث؛ لأنه مُسندٌ لظاهرٍ مجازيِّ التأنيثِ في قوله: (صَلاةُ الصُّبْحِ) أي: دخولُ وقتِها، وفي بعضِ الأصولِ ضبطَ <صلاةَ> بالفتحة، ففاعلُ الفعلِ: ضميرُ القُدْمةِ ونحوِها المدلولُ عليه بما تقدَّمَ، أو ضميرٌ يعودُ للأنصارِ، فافهم.
          (مَعَ النَّبِيِّ صلعم) مع متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ من: ((صلاةُ الصُّبحِ)) أو متعلقٌ بالفعلِ.
          تنبيه: قد يدلُّ لعودِ ضميرِ: ((وافَتْ)) للأنصارِ قولُه في ((الفتحِ)): يؤخَذُ منه أنهم كانوا لا يجتمعونَ في التَّجميعِ في كلِّ الصلواتِ إلا لأمرٍ يطرأُ، وكانوا يصلُّون في مساجدِهم؛ إذ كان لكلِّ قبيلةٍ مسجدٌ يصلُّون فيه، فلأجلِ ذلك عرَفَ النبيُّ عليه السَّلامُ أنهم اجتمَعُوا لأمرٍ، ودلَّتِ القرينةُ على تعيينِ ذلك الأمرِ؛ وهو: احتياجُهم إلى المالِ للتَّوسعةِ عليهم، فأبَوا إلا أن يكونَ للمهاجرينَ مثلُ ذلك.
          وتقدَّمَ هناك من حديثِ أنسٍ: فلمَّا قدِمَ المالُ رأَوا أنَّ لهم فيه حقًّا، ويحتمِلُ أنَّه وعدَهم بأن يُعطيهم منه إذا حضَرَ، وقد وعَدَ جابراً بعد هذا أن يُعطيَه من مالِ البحرَين، فوفَّى له أبو بكرٍ ☺.
          (فَلَمَّا صَلَّى) أي: النبيُّ (بِهِمِ) أي: بالأنصارِ (الْفَجْرَ) وفي بعضِ الأصُول: <صلاةَ الصبحِ> وهو أنسبُ بما قبلَه.
          وقوله: (انْصَرَفَ) أي: النبيُّ، جوابُ: ((لمَّا))، والمرادُ: أرادَ الانصِرافَ من المسجِدِ (فَتَعَرَّضُوا لَهُ) أي: أشاروا إليه ليُعطيَهم من المال (فَتَبَسَّمَ) أي: فضحِكَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم حِينَ رَآهُمْ) أي: متعرِّضين للمال.
          (وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ) أي: من مالِ البحرَينِ (قَالُوا: أَجَلْ) بفتحِ الهمزةِ والجيم، بمعنى: نعم (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ) أي: رسولُ الله (فَأَبْشِرُوا) بهمزة مفتوحة للقطع بعد الفاء (وَأَمِّلُوا) بهمزة كذلك وبكسرِ الميمِ المشدَّدة (مَا يَسُرُّكُمْ) / بضمِّ السِّين المهملةِ وبتشديد الرَّاء، ((ما)) الموصولةُ أو الموصوفةُ مفعولُ: ((أمِّلوا))، وفي بعضِ الأصولِ: <أبشِروا بما يسُرُّكم وأمِّلوا>.
          قال في ((الفتح)): ((فأبشِروا)) أمرٌ معناه: الإخبارُ بحصولِ المقصودِ، انتهى، فتأمَّله.
          ((وأمِّلوا)) من التأميلِ، وقال الزركشيُّ: الأمل: الرَّجاءُ، يقال: أمَّلتُه، فهو مأمولٌ.
          قال الدِّمياطيُّ: مقتضاه: أن يكونَ ((وأمِّلُوا)) بهمزة وصل وميم مضمومة، انتهى.
          وضبطَه الصَّغَاني بالوجهَين.
          (فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ) بنصب: ((الفقرَ)) مفعولِ: ((أخشى)) مقدَّماً عليه المنفيُّ بـ((لا)) أو ما، وفي بعض الأصولِ: ضبَطَه بالرفعِ على أن يكونَ مبتدأً، وجملةُ: ((أخشى عليكم)) خبرُه، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: أخشاه عليكم.
          (وَلَكِنْ) بسكونِ النونِ، للاستدراك (أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ) بالفوقية، مبنيٌّ للمفعولِ، و((أن)) والفعلُ في تأويلِ مصدرٍ مفعولِ: ((أخشى)) (عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ) ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ (عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) وسقطَتْ: ((كان)) لابنِ عساكرَ (فَتَنَافَسُوهَا) مضارعٌ من بابِ التفاعُلِ للمخاطبينَ، محذوفُ إحدى التاءين المفتوحتين، وهو منصوبٌ بحذفِ النونِ عطفاً على ((تُبسَطَ)).
          (كَمَا تَنَافَسُوهَا) ((ما)) مصدريةٌ، و((تنافَسُوها)) ماضٍ للغائبين، ولغيرِ الكُشميهنيِّ: <فتنافَسُوا كما تنافَسُوا> بحذف ضميرِ المفعولِ فيهما، لكنَّه مرادٌ، والذي في فرعِ ((اليونينيَّةِ)) كأصلِه: حذفُه من الأولِ دون الثاني (وَتُهْلِكَكُمْ) مضارعُ: ((أهلَكَ)) منصوبٌ، وفاعلُه يعودُ لـ((الدنيا)) (كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) أي: مَن كان قبلَكُم.
          وفي مسلمٍ عن ابنِ عمرِو بنِ العاصِ رفَعَه: ((يتنافَسُون، ثم يتحاسَدُون، ثم يتدابَرُون، ثم يتبالُونَ، ثم يتباغَضُون)) أو نحو ذلك.
          وسيأتي الكلامُ على الحديثِ بأبسطَ في كتابِ الرِّقاق، ومطابقتُه للترجمةِ ظاهرةٌ في مواضعَ.
          وفي الحديثِ _كما في ((الفتحِ))_ أنَّ طلَبَ العطاءِ من الإمامِ لا غَضاضةَ فيه، وفيه البُشرى من الإمامِ لأتباعِه، وتوسيعُ أملِهم منه.
          وفيه من إعلامِ النبوةِ: إخبارُه عليه السَّلامُ بما يُفتَحُ عليهم، وفيه أنَّ المنافسةَ في الدُّنيا قد تجرُّ إلى هلاكِ الدِّينِ.