الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين

          3159- 3160- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ) بفتحِ الفاءِ وسكونِ الضَّاد المعجمةِ (ابْنُ يَعْقُوبَ) أي: البغداديُّ، وهو من أفرادِ البخاريِّ، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ) بتكبيرِ: عبدُ (ابْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ) بفتحِ الرَّاء المشدَّدة وتشديدِ القافِ، نسبةً إلى الرَّقَّةِ، مدينةٌ بقُربِ الفُراتِ، ويقالُ لها: الرَّقَّةُ البيضاءُ، وهي: الرَّافقةُ، فأمَّا الرَّقَّةُ فخَرِبت، وغلَبَ اسمُ الرَّقةِ على الرافقةِ، كذا في ((العمدة)).
          قال: (حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ) بضمِّ الميمِ الأولى وكسرِ الثانيةِ بينهما فوقيَّة مفتوحةٌ وعين مهملةٌ ساكنة (ابْنُ سُلَيْمَانَ) بضمِّ السِّين المهملةِ، وما ذكَرْنا في ضبطِ المعتمِرِ هو الموجودُ في جميعِ النُّسخِ، كما في ((الفتح)) قال: وكذا وقَعَ في ((مستخرَجِ الإسماعيليِّ)) وغيرِه.
          قال: وزعمَ الدِّمياطيُّ أنَّ الصوابَ: المعَمَّرُ _بفتحِ العينِ المهملةِ وتشديدِ الميمِ المفتوحةِ من غير فوقيَّة بعدها_ قال: لأنَّ عبدَ الله بنَ جعفرٍ الرَّقِّيَ لا يَروي عن المعتمِرِ / البصريِّ، وتُعقِّبَ بأن ذلك ليس بكافٍ في ردِّ الرِّواياتِ الصحيحةِ، هبْ أنَّ أحدَهما لم يدخُلْ بلَدَ الآخَرِ، أمَا يجوزُ أن يكونا التَقيا في الحجِّ أو في الغزوِ؟ وما ذكره معارَضٌ بمثلِه، فإنَّ المعتمرَ بنَ سليمانَ رَقِّيٌّ، وسعيدَ بن عبدِ الله بصريٌّ.
          فمهما استُبعدَ من لقاءِ الرَّقيِّ للبصريِّ جاء مثلُه في الآخرِ، وأيضاً فالذين جمعُوا رجالَ البخاريِّ لم يذكُروا فيهم المعتمِرَ بنَ سليمان الرَّقيَّ، وأطبقوا على ذكرِ المعتمرِ بنِ سليمانَ التَّيميِّ البصريِّ.
          قال: وأغربَ الكرمانيُّ، فحكى أنه قيل: الصَّوابُ في هذا: معمَرُ بنُ راشدٍ؛ يعني: شيخَ عبد الرزَّاقِ، قال: وهذا هو الخطأُ بعينه، فليست لعبدِ الله بنِ جعفرَ الرَّقيِّ عن معمَرِ بنِ راشِدٍ روايةٌ أصلاً، انتهى.
          ثم ذكرَ أنَّ ابنَ قَرقولٍ سبَقَ الدمياطيَّ إلى ما قالَه، واعترضَ العينيُّ على ((الفتحِ)) فقال: لم يجزمِ الكرمانيُّ فيه، بل حكى عن بعضِهم، ومَن حكى عنه أن يقولَ: دعوى عدمِ روايةِ عبدِ الله بنِ جعفرَ الرَّقيِّ عن معمرِ بنِ راشدٍ يحتاجُ إلى دليلٍ.
          قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ) بوزن: أميرٍ (ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بتصغيرِ: عبدٍ؛ أي: ابنِ جُبيرِ بنِ حيَّةَ المذكورُ الآتي قريباً (الثَّقَفِيُّ) بفتحِ المثلَّثة والقافِ، نسبةً لثَقيفٍ، قال: (حَدَّثَنَا بَكْرُ) بفتحِ الموحَّدة وسكونِ الكافِ (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بتكبير: عبدٍ (الْمُزَنِيُّ) بضمِّ الميمِ وبالزاي، نسبةً لمزينةَ، البصريُّ.
          (وَزِيَادُ) بكسرِ الزاي وتخفيفِ التحتيَّة (ابْنُ جُبَيْرٍ) بالجيمِ والموحَّدة مصغراً، هو: عمُّ سعيد بنِ عبيدِ الله.
          (عَنْ جُبَيْرِ) هو: والدُ زيادٍ المذكورِ (ابْنِ حَيَّةَ) بفتحِ الحاءِ المهملةِ وتشديدِ التحتيَّة فتاء تأنيثٍ؛ أي: ابنِ مسعودِ بنِ مُعَيِّبٍ _بضمِّ الميمِ وفتحِ العينِ المهملةِ وتشديدِ التحتيَّة المكسورةِ فموحَّدة_ الثقفيِّ.
          قال في ((الفتح)): جبيرُ بنُ حيَّةَ من كبارِ التابعين، اسمُ جدِّه: مسعودٌ، ومنهم من عدَّه في الصحابةِ، قال: وليس ذلك عندي ببعيدٍ؛ لأنَّ مَن شهدَ الفتوحَ في وسطِ خلافةِ عمرَ يكونُ في عهدِ النبي صلعم مميِّزاً.
          وقد نقلَ ابنُ عبدِ البرِّ أنه لم يبقَ في سنةِ حجَّةِ الوداعِ من قُريشٍ وثقيفٍ أحدٌ إلا أسلمَ وشهدَها، وهذا منهم، وهو من بيتٍ كبيرٍ، فإنَّ عمَّه عُروةُ بنُ مسعودٍ، كان رئيسَ ثَقيفٍ في زمانِه، والمغيرةُ بنُ شُعبةَ ابنُ عمِّه.
          ثم قال: وذكرَ أبو الشيخِ أنَّ جُبيرَ بنَ حَيَّةَ ولِيَ إمرةَ أصبَهانَ، وماتَ في خلافةِ عبدِ الملكِ بنِ مروانَ، انتهى.
          وقال العينيُّ: جبيرُ بنُ حيَّةَ ولَّاه زيادٌ أصبَهانَ، وروى عن عمرَ بنِ الخطَّابِ والنُّعمانِ بنِ بشيرٍ ☻، وقال ابنُ ماكولا: روى عن المغيرةِ بنِ شعبةَ.
          (قَالَ) أي: جبيرُ بنُ حيَّةَ (بَعَثَ عُمَرُ) أي: ابنُ الخطَّابِ (☺ النَّاسَ) أي: المجاهدينَ (فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ) ((أَفْنَاء)) بفتحِ الهمزةِ أوَّله وسكونِ الفاء وبالنونِ ممدود، و((الأمصار)) بفتحِ الهمزةِ، جمع: مصرٍ.
          وقال في ((الفتح)): قوله: ((في أفناءِ الأمصارِ)) أي: في مجموعِ البلادِ الكبارِ، والأفناءُ _بالفاءِ والنونِ ممدوداً_ جمع: فِنْوٍ _بكسرِ الفاءِ وسكونِ النونِ_،ويقال: فلانٌ من أفناءِ الناسِ؛ إذا لم تعيَّنْ قبيلتُه، والمصرُ: المدينةُ العظيمةُ.
          قال: ووقعَ عند الكرمانيِّ: <الأنصارِ> بالنونِ بدلِ الميمِ، وشرَحَ عليه، ثم قال: وفي بعضِها: ((الأمصار)).
          وقال في ((المطالع)): قوله: ((في أفناءِ الناسِ)) أي: جماعاتِهم، والواحدُ: فِنوٌ، وقيل: أفناءُ الناسِ: أخلاطُهم، يقالُ للرجلِ إذا لم يُعلَمْ من أيِّ قبيلةٍ: هو من أفناءِ القبائلِ، وقيل: الأفناءُ النِّزاعُ / من القبائلِ من هاهنا ومن هاهنا.
          وحكى أبو حاتمٍ أنه لا يقالُ في الواحدِ: هذا من أفناءِ الناسِ، إنما يقالُ في الجمَاعةِ، وقيل: هو من الفِناءِ؛ وهو: المتَّسعُ أمام الدارِ، ويُجمعُ الفناءُ على: أفنيةٍ.
          واعترضَ العينيُّ تفسيرَ ((الفتحِ)) الأول، فقال: هذا التفسيرُ ليس هو على قانونِ اللُّغةِ، والذي ذكرناه هو التفسيرُ، انتهى.
          وذكرَ ما نقلناه عن ((المطالعِ))، وأقولُ: لعلَّ ((الفتحَ)) جعلَ الأفناءَ جمعَ: فِناءٍ _ككِساءٍ_، ومنه: فِناءُ الدارِ: ما اتَّسعَ من أمامِها، لكن جمعُه: أفنيةٌ، كما في ((القاموسِ))، فتأمَّل.
          وجملة: (يقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ) أي: الكفَّارَ مطلقاً، مستأنَفةٌ استئنافاً بيانياً، أو هي حالٌ مستقبلةٌ (فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ) بضمِّ الهاءِ والميمِ بينهما راءٌ ساكنةٌ وبعدَ الزاي ألفٌ فنونٌ مرفوعٌ بالضَّمة؛ لأنه علمُ رجُلٍ من عظماءِ العجمِ، كان ملِكاً بالأهوازِ.
          قال في ((القاموس)): الهُرمُزُ والهُرمُزانُ والهارَموزُ: الكبيرُ من مُلوكِ العَجمِ، انتهى.
          وكان الهُرمُزانُ من المخضرَمين، وفي ضربِه المثلَ الآتيَ دليلٌ على كمالِ عقله وفهمه.
          قال في ((الفتح)): في السِّياقِ اختصارُ؛ لأنَّ إسلامَ الهُرمُزانِ كان بعد قتالٍ كثيرٍ بينه وبين المسلمين بمدينة تُستَرَ، ثم نزل على حُكمِ عمرَ، فأسرَه أبو موسى الأشعريُّ، وأرسلَ به إلى عمرَ مع أنسٍ، فأسلمَ وصارَ عمرُ يقرِّبُه ويستشيرُه.
          ثم اتَّفقَ أنَّ عُبيد الله _بالتصغير_ ابن عمرَ بنِ الخطَّابِ اتَّهمه بأنَّه واطَأَ أبا لؤلؤةَ على قتلِ عمرَ، فعَدا عبيدُ الله عليه، فقتَلَه بعد قتلِ عمرَ ☺، وستأتي قصةُ إسلامه مع فوائدَ بعد عشَرةِ أبوابٍ، انتهى.
          ولكن نذكرُ هنا ما ذكرَه العينيُّ، حيثُ قال: أمَّا الهُرمُزانُ، فكان ملِكاً كبيراً من ملوكِ العجَمِ، وكانت تحت يدِه كورةُ الأهوازِ، وكورة جندي سابُورَ، وكورةُ الهربين، وكورة السُرَّقَ، وكورة نهر بَينَ، وكورةُ نهرِ تيري، ومَنَاذِرَ _بفتحِ الميمِ والنون وبعد الألف ذال معجمة فراء_.
          وكان الهُرمُزانُ في الجيشِ الذين أرسَلَهم يَزدَجُردَ إلى قتالِ المسلمين وهم على القادسيَّةِ، وهي قريةٌ على طريقِ الحاجِّ على مرحلةٍ من الكوفةِ، وأميرُ المسلمين يومئذٍ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ☺، وكانوا فيما قال ابنُ إسحاقَ ما بين السَّبعةِ آلافٍ إلى الثمانيةِ آلافٍ، وكان رأسُ جيشِ العجَمِ رستُمَ في مائةِ ألفٍ وعشرينَ ألفاً يتبَعُها ثمانون ألفاً، ومعهم ثلاثونَ وثلاثون؛ أي: من الألوفِ، وكان الهُرمُزانَ رأسَ المَيمَنةِ، ووقَعَ بين الفريقَينِ قتالٌ عظيمٌ لم يُعهَدْ مثلُه، وأبلى في ذلك اليومِ جماعةٌ من الشُّجعانِ مثلُ: طُليحةَ الأسَديِّ، وعمرِو بنِ مَعديكرِبَ، والقعقاعِ بنِ عمرٍو، وجَريرِ بنِ عبدِ الله البجليِّ، وضرارِ بنِ الخطَّابِ، وخالدِ بنِ عرفَطةَ، وأمثالِهم.
          وكانتِ الوَقعةُ يومَ الإثنين مستهَلَّ المحرَّمِ عامَ أربعَة عشَر، وأرسلَ اللهُ تعالى في ذلك اليومِ ريحاً شديدةً أرمَتْ خيامَ الفُرسِ من أماكنِها، وألقَتْ سَريرَ رُستَمَ مُقدَّمَ الجيشِ، فركِبَ بغْلةً وهربَ، وأدرَكَه المسلمون وقتَلوه، وانهزَمتِ الفُرسُ، وقتلَ المسلمونَ منهم خلقاً كثيراً، وكان فيهم المسلسلونَ ثلاثين ألفاً، فقُتِلوا بكمالِهم، وقُتلَ في المعركةِ عشرةُ آلافٍ، وقيل: قريبٌ من ذلك.
          ولم يزَلِ المسلمون وراءَهم إلى أن دخَلُوا مدينةَ الملِكِ؛ وهي: المدائنُ التي فيها أبوابُ كِسرى، وكان الهُرمُزانُ من جملةُ الهاربينَ، ثم وقعت بينه وبين المسلمين وقعةٌ، ثم وقعَ / الصُّلحُ بينه وبين المسلمين، ثم نقَضَ الصُّلحَ، ثم جمَعَ أبو موسى الأشعريُّ ☺ الجيشَ، وحاصَروا هُرمُزانَ في مدينةَ تُسترَ، ولما اشتدَّ عليه الأمرُ بعثَ إلى أبي موسى، فسأله الأمانَ إلى أن يحمله إلى أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطَّابِ ☺، فأجابَه إلى ذلك، ووجَّهَ معه الخُمسَ من غنائمِ المسلمينَ، فلمَّا وصَلَ إليه، ووقَعَ نظَرُه عليه، سجَدَ لله تعالى، وجَرى بينه وبين عمرَ مُحاوراتٌ، ثم بعد ذلك أسلَمَ طائعاً غيرَ مُكرَهٍ، وأسلَمَ مَن كان معه من أهلِه وولدِه وخدَمِه، ثم قرَّبَه عمرُ وفَرِحَ بإسلامِه.
          فهذه قصَّةُ هُرمُزانَ الذي قال في حديثِ البابِ: ((فأسلَمَ الهُرمُزانُ))، وكان لا يفارقُ عمرَ حتى قُتلَ عمرُ ☺، فاتَّهمَه بعضُ الناسِ بمُمالاةِ أبي لؤلؤةَ، فقتَلَه عُبيدُ اللهِ بنُ عمرَ ☻، انتهى.
          تنبيه: القادسيَّةُ _بالقافِ والدالِ والسِّين المهملتين_ تقدَّمَ أنَّها قريةٌ قُربَ الكوفةِ، وذكرَها في ((القاموسِ)) بزيادةٍ، فقال: القادسيَّةُ: بلَدٌ قُربَ الكوفةِ، مرَّ بها إبراهيمُ عليه السَّلامُ، فوجدَ بها عجوزاً، فغسلَتْ رأسَه، فقال: قدُسَتْ من أرضٍ! فسمِّيت بالقَادسيةِ، ودعا لها أن تكونَ محَلَّةَ الحاجِّ، انتهى.
          (فَقَالَ) أي: عمرُ للهُرمُزانِ (إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ) بفتحِ الميمِ وتشديد الياء، جمعُ: مَغزًى (هَذِهِ) أي: فارسَ وأصبَهانَ وأذَرْبيجانَ، كما عند ابنِ أبي شيبةَ؛ أي: في أيِّها أبدأُ بقتالِهم، قال: وهذا يُشعرُ بأنَّ المرادَ أنَّه استشارَه في جهاتٍ مخصوصةٍ، وخصَّه بالاستشارةِ؛ لأنَّه كان أعلمَ بشأنِ هذه البلادِ من غيرِه؛ لأنه من أهلِها.
          (قَالَ) أي: الهُرمُزانُ لعمرَ (نَعَمْ) أي: إنِّي أعِدُك بأن أُشيرَ عليك في ذلك، فـ((نعم)) هنا وعدٌ للطالبِ؛ لتضمُّنِ ((مُستشيرُكَ)) الطَّلبَ.
          وقال الكرمانيُّ: ((نعم)) حرفُ إيجابٍ، وإن صحَّتِ الروايةُ بلفظِ فعلِ المدحِ، فبتقديرِ: نعمَ المثَلُ مثَلُها، وضميرُ: ((مثلُها)) راجعٌ إلى الأرضِ التي يدلُّ عليها السِّياقُ، انتهى.
          وهل يجوزُ إرجاعُ ضميرِ: ((مثَلُها)) للمغازي على أن تكونَ مَكانَ الغزوِ، فيرجِعُ لِما قالوه، وتكونُ هذه بياناً لها، فتأمَّل.
          ولعلَّ ما قلناه في ((نعَم)) أولى، فعلى كَونِ: ((نعَم)) حرفَ وعدٍ أو إيجابٍ هي _بفتحِ النون والعينِ المهملةِ وسكون الميمِ_، وما بعدهَا من قولِه:
          (مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا) مبتدأٌ، وخبَرُه: ((مثَلٌ طائرٍ...)) إلخ، وهو في الثلاثِ: بفتحِ الميمِ والمثلثة، وأمَّا على ما أبداه إن صحَّتْ به الرِّوايةُ، فنِعْمَ _بكسرِ النونِ وسكونِ العينِ وفتحِ الميمِ_ فهو فعلٌ ماضٍ للمدحِ، وفاعِلُه: إمَّا ضميرٌ يرجع إلى: ((مثَلُها))، وإمَّا ظاهرٌ محذوفٌ كما يشيرُ إليه كلامُه.
          والجملةُ: خبرٌ مقدَّمٌ لـ((مَثَلُها)) إن رفَعْناه، وإن نُصبَ على أحدِ الاحتمالاتِ في مثلِ: نِعمَ الرجلُ زَيدٌ، وإن نصَبْنا: ((مثَلُها)) على أنَّه تمييزٌ، أشكلَ على مذهبِ البصريين، إلا أن يقالَ: إنَّ ((مَثَل)) بفتحتين؛ كمِثْلِ _بكسرِ الميمِ وسكون المثلثة_ لا يتعرَّفُ بالإضافةِ، وعلى صحَّةِ ما قاله، فلعلَّ قولَه: ((مثَلُ طائرٍ)) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: مَثَلُ ما ذكِرَ مثَلُ طائرٍ، أو خبرٌ لقولِه: و((مثَلُ مَن فيها)) بناءً على قطعِه عما قبلَه، ولا يخفى تكلُّفُ جميع ذلك، فلعلَّ الوجهَ حذفُ هذا الاحتمالِ، فتأمَّل.
          وقوله: (مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ) بيانٌ لـ((من فيها))، و((عَدوِّ)) بتشديد الواو، بوزنِ: صَبورٍ، يستَوي فيه المفرد والمذكَّر وغيرُه، وقد يجمعُ على: أعداءٍ، والمرادُ بهم: المشركونَ المحاربونَ (مَثَلُ طَائِرٍ) بالهمزِ، مفرَدٌ / يجمعُ على: طيرٍ وطُيورٍ (لَهُ) أي: للطائرِ (رَأْسٌ) بسكونِ الهمزةِ، وقد تُبدَلُ الفاءُ (وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَلَهُ رِجْلاَنِ) بكسرِ الرَّاء، تثنية: رجُلٍ، ومعاني هذه الأعضاءِ ظاهرٌ، والجارُّ والمجرورُ فيها خبرٌ مقدَّمٌ، وما بعده مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والجملةُ: صفةُ ((طائرٍ)) أو الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ صفتُه، والمرفوعُ بعده فاعلُه؛ لاعتمادِهِ على الموصوفِ.
          (فَإِنْ كُسِرَ) بتخفيفِ السِّين المهملةِ، مبنيٌّ للمفعولِ (أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ) بفتحاتٍ، جوابُ: ((إن))؛ أي: ارتفعَتْ (الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ) متعلِّقٌ، بـ((نهَضَتْ)) (وَالرَّأْسُ) عطفٌ على ((الرِّجلانِ))، ولأبي ذرٍّ بجرِّ <الرأسِ> عَطْفاً على: ((جناحِ))، ولو قُرئَ بنصبِ: ((الرأس)) على أنَّه مفعولٌ لأجلِه لم يمتنِعْ، وعرَّفَ ((الرأس)) لتعيُّنِه، ونكَّرَ ((الجناح)) لإبهامِهِ.
          (فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ) بالرفعِ (وَإِنْ) وفي بعضِ الأصولِ: <فإن> (شُدِخَ) بضمِّ الشِّين المعجمةِ وكسرِ الدالِ المهملةِ الخفيفةِ فخاء معجمةٌ؛ أي: كُسرَ (الرَّأْسُ) ففي ((القاموس)): الشَّدْخُ كالمنعِ: الكسرُ في كلِّ رَطْبٍ، وقيل: يابسٍ.
          وقال في ((المصباح)): شدَختُ رأسَه شَدْخاً _من بابِ: نفَعَ_: كسَرتُه، وكلُّ عظَمِ أجوَفَ إذا كسَرتَه فقد شدَختَه.
          (ذَهَبَتِ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ) لفواتِ النفعِ بها بكسرِ الرأسِ، ثم بيَّنَ المشابه لهذه الأعضَاءِ، فقال: (فَالرَّأْسُ كِسْرَى) مبتدأٌ وخبرٌ على القلبِ وحذفِ مُضافٍ فيه وفيما بعده، وهو ممنوعٌ من الصَّرفِ لألف التأنيث المقصُورة، وتقدَّمَ الكلامُ على كِسرى وأنَّه بكسرِ الكافِ وفتحِها.
          (وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ) بفتحِ القافِ والصَّاد المهملةِ، لا ينصرِفُ، وهو عظيمُ الرُّومِ، كما أنَّ كِسرى عظيمُ فارسٍ (وَالْجَنَاحُ الآخَرُ) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ (فَارِسُ) وهو: اسمٌ للجبلِ المعروفِ من العجَمِ.
          قال الكرمانيُّ: فإن قلتَ: وما الرَّجلانِ؟ قلتُ: لقيصرِ الفرَنجِ مثلاً، ولكسرى الهندِ مثلاً، وقال أيضاً: فإن قلتَ: لمَ لم يقُل: وإن كُسرَ الرِّجلانِ فكذا، قلتُ: اكتفى بذلك للعلمِ بحالِه قياساً على الجناحِ، لا سيَّما وهو بالنِّسبةِ للطائرِ أسهلُ حالاً من الجناحِ.
          وقال أيضاً: فإن قلتَ: إذا انكسَرَ الرِّجلانِ والجَناحانِ جميعاً لا ينتهِضُ أيضاً، قلتُ: الغرضُ أنَّ العضوَ الشَّريفَ هو الأصلُ، فإذا صلحَ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدَ فسدَ، بخلافِ العكسِ، انتهى.
          ولا ينبَغي لغيرِه نسبةُ هذه التنقُّلاتِ له.
          تنبيه: استشكلَ في ((الفتحِ)) قوله: ((فالرأسُ كسرى)) بأنَّ كسرى لم يكُنْ رأساً للرُّومِ، وإنما هو رأسُ أهل فارِسَ، ثم قال: دلَّتِ الرِّوايةُ الأخرى على أنَّ الهُرمُزانَ لم يُرِدْ إلا أهلَ بلادِه التي هو عالمٌ بها، وكانت الجيوشُ إذ ذاك بالبلادِ الثلاثةِ، وأكثرُها وأعظَمُها بالبلدةِ التي فيها كسرى؛ لأنه كان رأسَهم، انتهى.
          وقد يدُلُّ لذلك ما وقَعَ عند الطَّبَريِّ من طريقِ مُباركِ بنِ فضالةَ قال: ((فإنَّ فارسَ الآنَ رأسٌ وجناحانِ))، انتهى.
          وقد يؤخَذُ منه الجوابُ عن النظرِ، وقال القسطلانيُّ أخذاً من العينيِّ: وأجيبَ بأنَّ كسرى كان رأسَ الكلِّ؛ لأنَّه لم يكُنْ في زمانه ملكٌ أكبَرُ منه؛ لأنَّ سائرَ ملوكِ البلادِ كانت تُهادِنُه وتُهاديه، انتهى، فتأمَّل.
          (فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ) بضمِّ ميم: ((مُرِ)) وسكونِ الرَّاء، لكن حُرِّكَ بالكسرِ لالتقاءِ السَّاكنين (فَلْيَنْفِرُوا) بكسرِ الفاء؛ أي: فليذهَبوا (إِلَى كِسْرَى) أي: لأنه الرأسُ على ما مرَّ، وبقطعهِ يبطُلُ الجناحان والرجُلان.
          قال في ((الفتح)): وقعَ في روايةِ مباركِ بنِ فضالةَ أنَّ الهُرمُزانَ قال لعمرَ: ((فاقطعِ الجناحَينِ يلينُ لك / الرأسُ، فأنكَرَ عليه، فقال: بل اقطعِ الرأسَ أولاً))، قال: فيحتملُ أنَّه لما أنكَرَ عليه، عادَ فأشارَ عليه بالصَّوابِ.
          (وَقَالَ بَكْرٌ) بفتحِ الموحَّدة وسكونِ الكافِ؛ أي: ابنُ عبدِ الله المزنيُّ المارُّ في السندِ كاللذينِ بعده (وَزِيَادٌ) بكسرِ الزاي؛ أي: ابنُ جُبيرِ بنِ عبيدِ الله المارِّ (جَمِيعاً عَنْ جُبَيْرِ) بالجيمِ فالموحَّدة مصغَّراً (ابْنِ حَيَّةَ) بفتحِ الحاءِ المهملةِ وتشديدِ التحتيَّة، وهذا يحتملُ التعليقَ والوصلَ، لكن الظاهرُ الثاني.
          (قَالَ) أي: جبيرٌ المذكورُ (فَنَدَبَنا) بفتحاتٍ والدالِ مهملةٌ؛ أي: فدعانا للغَزوِ إلى كسرى (عُمَرُ) أي: ابنُ الخطَّابِ ☺ (وَاسْتَعْمَلَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمَّرَ عمرُ (عَلَيْنَا النُّعْمَانَ) بضمِّ النون (ابْنَ مُقَرِّنٍ) بضمِّ الميمِ وفتحِ القافِ وتشديدِ الرَّاء المكسُورة، ابنِ عائذِ بنِ هُجيرٍ.
          قال ابنُ عبدِ البرِّ: ويقال: النُّعمانُ بنُ عمرِو بنِ مقرِّنٍ، ويُكنى: أبا عمرٍو، وقيل: أبا حَكيمٍ؛ أي: المزنيَّ، حاملَ لواءِ مُزَينةَ يوم الفتحِ، وكان من أفاضلِ الصَّحابةِ، هاجَرَ هو وإخوةٌ له سبعةٌ، وقيل: عشَرةٌ.
          قال ابنُ مسعودٍ في حقِّه: إنَّ للإيمانِ بيوتاً، وإنَّ بيتَ آلِ مقرِّنٍ من بيوتِ الإيمانِ، ورويَ عن النُّعمانِ أنه قال: قدِمْنا على رسولِ اللهِ صلعم في أربعمائةٍ من مُزَينةَ، سكنَ البصرةَ، وتحوَّلَ عنها إلى الكوفةِ.
          قال الكرمانيُّ: واستُشهدَ بنهاوَندَ سنةَ إحدى وعشرين، وكان النُّعمانُ قدِمَ على عمرَ بفتحِ القادسيةِ التي تقدَّمَ ذِكرُها قريباً، وقد روى ابنُ أبي شيبةَ أنَّ عمرَ دخلَ المسجدَ، فإذا هو بالنُّعمان يصلِّي، فقعدَ، فلمَّا فرَغَ قال: إني مستعمِلُك قال: أمَّا جابِياً فلا، ولكن غازِياً قال: فإنَّك غازٍ، فخرَجَ معه الزُّبيرُ وحذيفةُ وابنُ عمرَ والأشعَثُ وعمرُو بنُ معديكَرِبَ.
          وفي روايةِ الطبريِّ المذكورةِ: ((فأرادَ عمرُ المسيرَ بنفسِهِ، ثم بعثَ النعمانَ ومعه ابنُ عمرَ وجماعةٌ، وكتبَ إلى أبي موسى أن يسيرَ بأهلِ البَصرةِ، وإلى حذيفةَ أن يسيرَ بأهلِ الكوفةِ حتى يجتمِعوا بنَهَاوَندَ، وهي _بفتحِ النونِ والهاء والواو وسكونِ النون الثَّانية_، قال: وإذا التَقيتُم فأميرُكم النُّعمانُ بنُ مقرِّنٍ)) قاله في ((الفتح)) _قول الفتح بفتحِ النون الأولى_.
          واعترضه العينيُّ فقال: وليس كذلك بلْ بالضَّم؛ لأنَّ الذي بناها نوحٌ عليه السَّلامُ، وكانت تُسمَّى: نوحْ آوَندَ؛ يعني: عمَّرَها نوحٌ، فأبدلوا الحاءَ هاءً، وهي مدينةٌ جنوبيَّ همْدانَ، ولها أنهارٌ وبساتينُ، وهي كثيرةُ الفواكِه، وتحمَلُ فواكِهُها إلى العراقِ لجودَتِها، بينها وبين هَمْدانَ أربعةَ عشَرَ فَرسَخاً، وهي من بلادِ عِراقِ العجَمِ في حدِّ بلادِ الجبلِ، انتهى.
          وأقول: قال في ((القاموس)): نَهاوَنْدُ _مثلثة النون الفتح والكسر عن الصَّغَانيِّ، والضمُّ عن ((اللُّباب))_: بلدٌ من بلادِ الجبلِ جنوبيَّ همدانَ، أصلُه: نُوحْ آوَنْدَ؛ لأنه بناها، أو أصلُه: نَهاوَندَ، انتهى، فاعرِفْه.
          (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ) أي: نَهاوَندَ كما بينَتْه روايةُ الطبريِّ السابقةُ آنفاً، و((حتى)) غايةٌ لمقدَّرٍ قبلَه؛ أي: فسِرْنا بعد أن استعمَلَ عمرُ علينا النُّعمانَ بنَ مقرِّنٍ حتى... إلخ، وتقديرُ: ((نا)) للمحذوفِ قبل ((حتى)) أَولى من تقديرِ القسطَلانيِّ له بعد ((إذا))، فافهم.
          (وَخَرَجَ) بالواو للأكثر، وسقطت لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ، وسقوطُها أَولى؛ ليكونَ: <خرَجَ> جوابَ إذا، فأمَّا على ثبوتِها، فالجوابُ محذوفٌ، أو الواو زائدةٌ، فافهم.
          (عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى) قال في ((فتح الباري)): سمَّاه مباركُ بنُ فَضالةَ في روايتِه: بُنداراً، وعند ابنِ أبي شيبةَ أنَّه ذو الحاجبَينِ، فلعلَّ أحدَهما لقَبُه، انتهى.
          وقال في ((عمدة القاري)): وكان عاملُ / كِسرى الذي على هؤلاءِ الجيشِ الفيزُرانُ، ويقال: بُندارٌ، ويقال: ذو الحاجبينِ، وقال ابنُ الأثيرِ في كتابِ ((الأذواء)): ذو الحاجبَينِ هو: خرزادُ بنُ هُرمُزَ، من الفُرسِ، أحدُ الأمراءِ الأربعةِ الذين أمَّرَتهم الأعاجِمُ على كورةِ نهاوَندَ، انتهى.
          (فِي أَرْبَعِينَ أَلْفاً) متعلِّقٌ بـ((خرج)) أو بمحذوفٍ حالٍ من: ((عاملُ))، قال العينيُّ: كان هؤلاءِ الأربعونَ ألفاً من أهلِ فارسَ وكِرمانَ، وكان من أهلِ نَهاوَندَ عشرونَ ألفاً، ومن أهلِ أصبَهانَ عشرونَ ألفاً، ومن أهلِ قُمْ وقاشانَ عشرونَ ألفاً، ومن أهلِ أَذَرْبيجانَ ثلاثونَ ألفاً، ومن بلادٍ أخرى عشرونَ ألفاً، فالجملةُ مِائةٌ وخمسون ألفاً فُرساناً، وكانت هذه الوقعةُ التي وقعَتْ على نَهاوَندَ وَقعةً عظيمةً، وكان المسلمون يسمُّونها فتحَ الفتوحِ، وكانت _كما قال ابنُ إسحاقَ والواقِديُّ_ سنةَ إحدى وعشرين، وقال سيفٌ: كانت سنةَ سبعَ عشْرةَ، وقيل: سنةَ تسعَ عشْرةَ، وكانت أربعَ مراتٍ، وقُتلَ في الثالثةِ النُّعمان بنُ مقرِّنٍ أميرُ الجيشِ، فقامَ مَقامَه حذيفةُ بن اليمانِ ☺، انتهى.
          واعلم أنَّ هذه الوقعةَ غيرُ السابقةِ قريباً التي ذكرَها العينيُّ أيضاً، فإنَّ هذه بعد إسلامِ الهُرمُزانِ واستشارةِ عمرَ له في مغازيه، وأنَّ الكبيرَ فيها غيرُ ما في السَّابقةِ، وأنَّ عددَ الجيشِ فيها أقلُّ ما في السَّابقةِ بكثيرٍ، وأنَّ المحلَّ مختلِفٌ، فتأمَّله.
          (فَقَامَ تُرْجُمَانٌ) أي: من المشركين، قال القسطلانيُّ: لم يُسمَّ، وهو _بضمِّ التاء وفتحِها وضم الجيمِ وبفتحها_؛ وهو: المعبِّرُ عن لغةٍ بغيرِها، ورواه الطبريُّ بزيادةِ: ((فلمَّا اجتمَعوا أرسَلَ بُندارٌ إليهم أن أرسِلُوا إلينا رجلاً نكلِّمُه، فأرسَلوا إليه المغيرةَ)).
          وفي روايةِ ابنِ أبي شيبةَ: ((وكان بينهم نهرٌ، فسرَّحَ إليهم المغيرةُ، فعبَرَ النهرَ، فشاورَ ذو الحاجبَينِ أصحابَه كيف نقعُدُ للرسولِ؟ فقالوا له: اقعُدْ في هيئةِ الملكِ وبهجَتِه، فقعد على سريرِه، ووضعَ التاجَ على رأسِه، وقامَ أبناءُ الملوكِ حولَه سِماطَينِ، عليهم أساورُ الذهبِ والقِرَطةُ والدِّيباجُ، قال: فأذِنَ للمغيرةِ، فأخَذَ بضَبعَيه رجُلانِ ومعه رُمحُه وسيفُه، فجعلَ يطعَنُ برُمحِه في بسُطِهم ليتطيَّرُوا)).
          وفي روايةِ الطبريِّ: ((قال المغيرةُ: فمضَيتُ ونكَستُ رأسي، فدُفعتُ، فقلتُ لهم: إنَّ الرُّسلَ لا يفعلُ بهم هذا)).
          (فَقَالَ) أي: التُّرجمانُ (لِيُكَلِّمْنِي) بكسرِ لام الأمرِ وجزمِ الفعلِ بالسُّكون (رَجُلٌ مِنْكُمْ) أي: بأن يذكُرَ لنا سببَ قتالِكم لغيرِ أهلِ مِلَّتِكم ويجيبَني عن سؤالي (فَقَالَ الْمُغِيرَةُ) بضمِّ الميمِ وقد تكسر؛ أي: ابنُ شُعبةَ ☺.
          قال العينيُّ: وكان هو التُّرجمانَ، وكذلك كان هو التُّرجُمانَ بين الهُرمُزانِ وعمرَ بنِ الخطَّابِ في المدينةِ لما قدِمَ الهُرمُزانُ إليه، انتهى.
          وأقولُ: فيه إشارةٌ إلى أنَّ المغيرةَ كان يعرفُ اللسانَ العجميَّ أيضاً.
          (سَلْ) بفتحِ السِّين المهملةِ وسكون اللام، أمرٌ من: سالَ يَسالُ _بالألف تخفيفاً من سألَ يسألُ المهموزِ_، وقُرئَ قولُه تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] بالهمز وبالألف؛ أي: ▬اسألْ↨ (عَمَّا) بألف بعد الميمِ للأكثرِ، وسقطتِ الألفُ لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ، وهو الأكثرُ، وعلى إثباتِ الألف فـ((ما)) تحتمِلُ الموصولةَ والنكِرةَ الموصوفةَ؛ أي: اسألْ عن أيِّ شيءٍ (شِئْتَ) بفتحِ التاء؛ أي: أردتَ.
          (قَالَ) أي: التُّرجُمانُ بلا فاءٍ للأكثرِ، ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ: <فقال> (مَا أَنْتُمْ) مبتدأٌ وخبرٌ، و((ما)) استفهاميةٌ، وعبَّرَ بـ((ما)) التي هي لغيرِ / العُقلاءِ تحقيراً للمسلمين، أو لأنه يرى أنَّ ((ما)) للجميعِ على أنه أعجميٌّ.
          قال في ((الفتح)): وفي روايةِ ابنِ أبي شيبةَ: فقال: ((إنكم _معشَرَ العربِ_ أصابَكم جوعٌ وجَهدٌ فجئتمُ، فإن شئتم مِرْناكم _بكسرِ الميمِ وسكونِ الرَّاء_ أي: الميرةَ؛ وهي: الطَّعامُ _أي: أعطيناكمُ الزادَ_ ورجَعتُم)).
          وللطبري: ((إنكم _معشرَ العربِ_ أطولُ الناسِ جوعاً، وأبعدُ الناسِ من كلِّ خيرٍ، وما منعَني أن آمُرَ هؤلاءِ الأساوِرةَ أن ينتَظِروكم بالنِّشابِ إلا تنجُّساً لجيَفِكم، قال: فحمدتُ اللهَ وأثنيتُ عليه، ثم قلتُ: ما أخطأتَ شيئاً من صَنعتِنا، كذلك كنَّا حتى بعثَ اللهُ إلينا رسولَه...)) الحديثَ، وهذا مثلُ قولِه هنا.
          (قَالَ) أي: المغيرةُ بنُ شعبةَ (نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا فِي شَقَاءٍ) بفتحِ الشِّين المعجمةِ والقاف وبالمد؛ أي: تعبٍ (شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ) بفتحِ الموحَّدة والمد؛ أي: ابتِلاءٍ (شَدِيدٍ) أي: لكثرَتِهِ، أو لصعوبتِهِ (نَمَصُّ) بفتحِ النون وكذا الميم وضمها وتشديد الصاد المهملةِ، لكن الموجودُ في الأصلِ وغيرُه: فتحُ الميمِ فقط؛ أي: نرضَعُ (الْجِلْدَ) بكسرِ الجيم؛ أي: جلدَ نحوِ الغنمِ؛ لِما فيه من الرطوبةِ وبقيَّةِ لحمٍ ونحوِه.
          (وَالنَّوَى) أي: نَوى التمرِ ونحوِه (مِنَ الْجُوعِ) متعلِّقٌ بـ((نمَصُّ)) على أنه علَّةٌ له (وَنَلْبَسُ) بفتحِ أوله وثالثه (الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ) أي: لعدمِ تيسُّرِ غيرِهما عندنا، و((الوَبَر)) بفتحِ الواو والموحَّدة؛ صوفُ الإبلِ والأرانبِ ونحوِهما، والجمعُ: أَوبارٌ، قاله في ((القاموس))، و((الشَّعَر)) بفتحِ الشِّين المعجمةِ والعينِ المهملةِ وتسكن العين، معروفٌ، والجمعُ: شُعورٌ وأشعارٌ.
          (وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ) أي: بعضَها، فإنَّ منهم مَن كانوا يعبدون العُزَّى، وهي شجرةٌ بالطائفِ كانت لغطَفانَ تكلِّمُهم منها شيطانةٌ، فأرسلَ النبيُّ عليه السَّلامُ إليها خالدَ بنَ الوليدِ، فقطعَها، فخرجَتْ منها شَيطانةٌ ناثِرةٌ شعرَها، تُنادي: ويلَها وثُبورَها، فضربها خالدٌ بالسيفِ، وقال: يا عُزَّى؛ كُفرانَك لا سُبحانَك، وفي لفظٍ: كُفرانَك كُفرانَك، إني رأيتُ اللهَ قد أهانك، ثم جاءَ، فأخبرَ النبيَّ صلعم بذلك، فقال: ((تلك العُزَّى، ولن تُعبدَ أبداً)).
          (وَالْحَجَرَ) أي: الأصنامَ والأوثانَ، وعابدوه كثيرونَ (فَبَيْنمَا) وسقطتْ: ((ما)) في بعضِ الأصُولِ (نَحْنُ كَذَلِكَ) أي: على هذهِ الحالةِ (إِذْ بَعَثَ) أي: أرسَلَ (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ) بفتحِ الرَّاء وتسكن ضرورةً، وفي بعضِ الأصُول: <الأرضِ> بالإفرادِ (تَعَالَى ذِكْرُهُ) بكسرِ الذال المعجمةِ (وَجَلَّتْ) بفتحِ الجيمِ وتشديد اللام؛ أي: عظُمَتْ (عَظَمَتُهُ) بفتحِ العينِ المهملةِ والظاء المشالة، وسقطَ من أكثرِ النُّسخِ: ((تعالى ذِكرُه وجلَّتْ عظَمتُه)) وثبَتَ في بعضِها عقِبَ: ((رسولُ ربِّنا)) الآتي.
          (إِلَيْنَا) متعلِّقٌ بـ((بعثَ)) (نَبِيّاً) أي: فصارَ بالبعثِ إلينا رسولاً بأحكامٍ وشرائعَ (مِنْ أَنْفُسِنَا) بضمِّ الفاء، جمعُ: نفسٍ، بمعنى: الذاتِ، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:128] وقُرئَ في الشواذِّ: ▬من أنفَسِكم↨ بفتحِ الفاء، ولا يمتنِعُ أن يُقرأَ هاهنا كذلك (نَعْرِفُ) بفتحِ النون وكسرِ الرَّاء (أَبَاهُ) هو: عبدُ الله بنُ عبدِ المطَّلبِ (وَأُمَّهُ) بضمِّ الهمزةِ وكسرِها؛ وهي: آمنةُ بنتُ وهبٍ، زادَ ابنُ أبي شيبةَ: ((في شرَفٍ منَّا، أوسَطُنا حسَباً، وأصدقُنا حَديثاً)).
          (فَأَمَرَنَا) بفتحات (نَبِيُّنَا صلعم رَسُولُ رَبِّنَا) سقطَ ((نبيُّنا)) مع التَّصليةِ من بعض النُّسخِ (أَنْ نَقَاتِلَكُمْ) أي: أيها المشركون (حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ) يعني: حتى توحِّدوه تعالى (أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ) لكن الثاني مخصُوصٌ عند / الجمهورِ بمَن له كتابٌ أو شُبهةُ كتابٍ، كما مرَّ أولَ الكتابِ.
          وفي هذا المطابقةُ للترجمةِ؛ لأنهم كانوا مَجُوساً، وقال شيخُ الإسلامِ: والمطابَقةُ في تأخيرِ النُّعمانِ القتالَ وانتظارِ هُبوبِ الرِّياحِ، فإنَّ فيه مُوادَعةً، انتهى.
          (وَأَخْبَرَنَا) بفتحِ الموحَّدة والرَّاء (نَبِيُّنَا صلعم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا) وفي بعضِ الأصُول: <╡> من إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِهِ، ولو حذَفَه لكانَ أظهَرَ، إلا أن يُقالَ: أرادَ إخبارَه بواسطةِ الملَكِ، أو تُجعلَ بمعنى: رسولٍ، وهو الملكُ، فتأمَّل.
          (أَنَّهُ) بفتحِ الهمزةِ وكسرِها؛ أي: الشأنَ والأمرَ (مَنْ قُتِلَ) ببنائه للمفعول (مِنَّا) أي: في جهادِ الكفَّارِ (صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ) أي: عقِبَ قتلِهِ، أو بعد القيامةِ والبعثِ (فِي نَعِيمٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا) نائبُ فاعلِ: ((يُرَ))، وفي بعضِ النُّسخِ: <مثلَها> بالنصبِ، فـ<يَرَ> مبنيٌّ للفاعلِ (قَطُّ) بكسرِ ميم ((مِثْل)) وسكون المثلثة، وضميرُ: ((مِثلُها)) للجنَّةِ، وفي بعضِ النُّسخِ: <مثلُه> أي: النَّعيمِ (وَمَنْ بَقِيَ) بفتحِ الموحَّدة وكسرِ القاف؛ أي: حيًّا (مِنَّا) بكسرِ الميمِ وتشديد النون.
          وقوله: (مَلَكَ) بفتحات (رِقَابَكُمْ) أي: بأسرِها، جوابُ: ((من))، وفي إخبارِ المغيرةِ بذلك كما في ((الفتح)) أنَّ النبيَّ صلعم أمرَ بقتالِ المجُوسِ حتى يؤدُّوا الجِزيةَ، ففيه ردٌّ لقولِ مَن زعَمَ أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ تفرَّدَ بذلك، وزادَ في روايةِ الطَّبَريِّ: ((وإنَّا واللهِ لا نرجِعُ إلى ذلك الشَّقاءِ حتى نغلِبَكم على ما في أيديكُم)).
          وفيه _كما قال الكرمانيُّ_ فَصاحةُ المغيرةِ من حَيثُ إنَّ كلامَه مبيِّنٌ لأحوالِهم فيما يتعلَّقُ بدُنياهم من المطعومِ والملبوسِ، وبدينِهم من العبادةِ، وبمعاملَتِهم من الأعداءِ بطلبِ التوحيدِ، ولمَعادِهم في الآخرةِ إلى كونِهم في الجنةِ، وفي الدُّنيا إلى كونِهم مُلوكاً يملِكونَ الرِّقابَ.
          (فَقَالَ النُّعْمَانُ) أي: ابنُ مقرِّنٍ؛ يعني: للمغيرةِ بنِ شُعبةَ لمَّا أنكَرَ عليه تأخيرَ القتالِ؛ لأنَّ المغيرةَ كان قصدُه المبادرةَ بالقتالِ أولَ النهارِ عقِبَ الفراغِ من مكالَمةِ التُّرجُمانِ (رُبَّمَا) للتقليل، ويحتملُ التكثيرَ (أَشْهَدَكَ) بفتحِ الهمزةِ والهاء والدالِ (اللَّهُ) أي: أحضَرَك (مِثْلَهَا) أي: مثلَ هذه الواقعةِ أو الشِّدَّةِ (مَعَ النَّبِيِّ صلعم) أي: فانتظَرَ عليه السَّلامُ بالقتالِ إلى كثرةِ هبوبِ الرِّياحِ، وذلك بعد زوالِ الشمسِ.
          (فَلَمْ يُنَدِّمْكَ) بضمِّ التحتيَّة وفتحِ النون وكسرِ الدالِ المهملةِ المشدَّدة وجزم الميمِ، بل من التقديم؛ أي: على ما لقِيتَ معه من الشِّدَّةِ والقتالِ، أو على التأنِّي عن القتالِ أولَ النَّهارِ والصَّبرِ إلى الزَّوالِ.
          (وَلَمْ يُخْزِكَ) بضمِّ التحتيَّة أوله وسكون الخاء المعجمةِ وكسرِ الزاي، من: أخزاه، أذَلَّه وأهانَه، مجزومٌ بحذفِ التحتيَّة لأبي ذرٍّ، وعند غيرِه عن الكُشميهنيِّ: <ولم يَحْزُنك> بفتحِ التحتيَّة أوله وسكون الحاء المهملةِ وضم الزاي، كذا نسَبَ القسطلانيُّ الضبطَ المذكورَ.
          وقال العينيُّ: في روايةِ: <ولم يحزُنكَ> بالحاء المهملةِ، وهي روايةُ الأكثرين، وقال في روايةِ: <ولم يُخزِكَ> بالخاء المعجمةِ، وهي روايةُ المستمليِّ، وهي أوجَهُ لوِفاقِ ما قبلَه، كما في حديثِ وفدِ عبدِ القيسِ: ((غيرَ خَزايا ولا نَدامى)) أي: لو قُتلتَ معه نُعلِمُك بما تصيرُ إليه من النعيمِ وثوابِ الشهادةِ.
          (وَلَكِنِّي شَهِدْتُ) بكسرِ الهاء؛ أي: حضَرتُ (الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم) أي: وضبطتُه، هذا الاستدراكُ كلامٌ مستأنفٌ وابتداءُ قصَّةٍ أخرى، كما في ((الفتح))، وقال ابنُ بطالٍ: كلامُ النُّعمانِ مستأنفٌ وابتداءُ قصَّةٍ أخرى، انتهى.
          لكن قال في ((الفتح)): بيَّنَ مُباركُ بنُ فَضالةَ في روايتِه عن زيادِ بنِ / جُبيرٍ ارتباطَ كلامِ النعمانِ بما قبلَه، قال: وبسياقه يتبيَّنُ أنه ليس قصَّةً مستأنفةً، قال: وحاصِلُه أنَّ المغيرةَ أنكَرَ على النُّعمانِ تأخيرَ القتالِ، فاعتذرَ النُّعمانُ بما قاله.
          وعبارةُ الكرمانيِّ: فإن قلتَ: ما معنى الاستدراكِ؟ وأين توسُّطَه بين كلامَين متغايرَين؟ قلتُ: كأنَّ المغيرةَ قصَدَ الاشتغالَ بالقتالِ أولَ النَّهارِ بعد الفراغِ عن المكالَمةِ مع التُّرجُمانِ، فقال النُّعمانُ: إنَّك وإن شهِدتَ القتالَ مع رسولِ الله صلعم، لكنَّك ما ضبطتَ انتظارَه للهُبوبِ، انتهى.
          وقد أوردَ المصنِّفُ كلامَ النُّعمانِ هنا مختصَراً، وأوردَه مباركٌ مطوَّلاً.
          قال في ((الفتح)): ولفظُ: مبارَكٍ ملخَّصاً أنهم أرسَلوا إليهم: إما أن تعبُروا إلينا النهرَ، أو نعبُرَ إليكم، قال النُّعمانُ: اعبُروا إليهم، قال: فتَلاقَوا وقد قرَنَ بعضُهم بعضاً، وألقَوا حسَكَ الحديدِ خلفَهم لئلَّا يفِرُّوا، قال: فرأى المغيرةُ كثرتَهم، فقال: لم أرَ كاليومِ فَشَلاً أنَّ عدوَّنا يُترَكونَ يتأهَّبونَ، أمَا واللهِ؛ لو كان الأمرُ إليَّ لقد أعجَلتُهم.
          وفي روايةِ ابنِ أبي شيبةَ: ((فصافَفناهم، فرشَقُونا حتى أسرَعُوا فينا، فقال المغيرةُ للنُّعمانِ: إنه قد أسرَعَ في الناسِ، فلو حمَلتَ، فقال النُّعمانُ: إنك لَذو مناقِبَ، وقد شهِدتَ مع رسولِ الله صلعم مثلَها))، وفي روايةِ الطبريِّ: ((قد كانَ الله أشهَدَك أمثالَها، وإنَّه واللهِ ما منعَني أن أُناجِزَهم إلا شيءٌ شهِدتُه من رسُولِ الله صلعم)).
          (كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ) أي: بالقتالِ (حَتَّى تَهُبَّ) مضارعُ: هَبَّ _من بابِ: قعَدَ_، قاله في ((المصباحِ))، وقال في ((الصِّحاحِ)): هبَّتِ الريحُ تهُبُّ هبوباً وهَبيباً، هاجَتْ، انتهى. أي: حتى تثورَ.
          (الأَرْوَاحُ) بالواو، جمعُ: رِيحٍ _بالياء_، وأصلُه: رُوحٌ، قُلبتِ الواو ياءً لسكونِها وانكِسارِ ما قبلَها.
          قال الزركشيُّ: وحكى ابنُ جنيٍّ عن بعضِهم في جمعِ: ريحٍ: أرياحٍ؛ لمَّا رآهم قالوا: رِياحٌ.
          واعترضَه في ((المصابيح)) فقال: اعتماد صاحبِ هذا القولِ على: رياحٍ، وهم لأنَّ موجِبَ قلبِ الواوِ ياءً فيه ثابتٌ؛ لانكِسارِ ما قبلَها؛ كحِياضٍ، جمعِ: حَوضٍ، والمقتضي لقلبِها ياءً في أرياحٍ مفقودٌ، والمعتمَدُ في هذا إنَّما هو السماعُ، انتهى.
          وفي ((القاموس)): جمعُ الرِّيحِ: أرواحٌ وأرياحٌ ورِياحٌ ورِيَحٌ _كعِنَبٍ_، وجمعُ الجمعِ: أراويحُ وأراييحُ.
          (وَتَحْضُرَ) بالنصب (الصَّلَوَاتُ) بالجمع، وكأنَّه باعتبارِ تكرُّرِ الصَّلاةِ من المكلَّفين، وإلا فالمرادُ صلاةُ الظهرِ؛ أي: حتى يدخُلَ وقتُها بالزَّوالِ، والأولى فعلُها قبل القتالِ.
          ورواه ابنُ أبي شيبةَ بلفظِ: ((وتزولَ الشمسُ وينزِلَ النصرُ))، وزاد الطبريُّ: ((ويطيبَ القتالُ)) وزادا معاً، واللفظُ لمباركِ بنِ فَضالةَ عن زيادِ بنِ جُبيرٍ: ((فقال النُّعمانُ: اللهم إنِّي أسألُك أن تَقَرَّ عينيَ اليومَ بفتحٍ يكونُ فيه عزُّ الإسلامِ وذلُّ الكفرِ والشَّهادةُ لي، ثم قال: إنِّي هازٌّ اللِّواءَ، فتيسَّروا للقتالِ)).
          ولابنِ أبي شيبةَ: ((فليقضِ الرجلُ حاجتَه، وليتوضَّأْ، ثم هازَّه الثانيةَ فتأهَّبُوا، وفي روايةٍ له: فلينظُرِ الرَّجلُ إلى نفسِه ويرمي من سلاحِه، ثم هازَّه الثالثةَ: فاحمِلُوا ولا يلوِيَنَّ أحدٌ على أحدٍ، ولو قُتلتُ، فإن قُتلتُ، فعلى الناسِ حذيفةُ، قال: فحمَلَ وحمَلَ الناسُ، فواللهِ ما علِمتُ أنَّ أحداً يومئذٍ يريدُ أن يرجِعَ إلى أهلِه حتى يُقتلَ أو يظفَرَ، فثبَتُوا لنا، ثم انهزَمُوا، فجعَلَ الواحدُ / يقَعُ على الآخَرِ، فيقتُلُ سبعةً، وجعلَ الحسَكُ الذي جعَلُوه خلفَهم يعقِرُهم، ووقَعَ ذو الحاجِبَينِ عن بغْلةٍ شهباءَ، فانشَقَّ بطنُه، ففتَحُ الله على المسلمين)).
          وفي روايةِ الطبريِّ: وجعَلَ النعمانُ يتقدَّمُ باللواءِ، فلمَّا تحقَّقَ الفتحُ، جاءَتْه نُشَّابةٌ في خاصرتِه فصرعَتْه، فسَجَّاه أخوه مغفَّلٌ ثوباً، وأخذَ اللِّواءَ، ورجعَ الناسُ، فنزَلُوا وبايَعُوا حذيفةَ، فكتبَ إلى عمرَ بالفتحِ مع رجلٍ من المسلمين.
          قال في ((الفتح)): وسمَّاه سيفٌ في الفتوحِ طَريفَ بنَ سَهمٍ، وعند ابنِ أبي شيبةَ عن أبي عثمانَ النَّهديِّ أنه ذهَبَ بالبشارةِ إلى عمرَ، قال: فيُمكِنُ أن يكونا ترافَقا، وذكر الطبَريُّ أنَّ ذلك كان في سنةِ تسعَ عشْرةَ، وقيل: في سنة إحدى وعشرينَ.
          وفي الحديثِ _كما في ((الفتح))_ منقَبةٌ للنُّعمانِ، ومعرفةُ المغيرةِ بالحربِ، وقوةُ نفسِه وشَهامتُه وفصاحتُه وبلاغتُه، وقال فيه أيضاً: ولقد اشتمَلَ كلامُه هذا الوجيزُ على بيانِ أحوالِهم الدُّنيويَّةِ من المطعمِ والملبَسِ ونحوِهما، وعلى أحوالِهم الدينيةِ أولاً وثانياً، وعلى معتقَدِهم من التوحيدِ والرِّسالةِ والإيمانِ بالمعادِ، وعلى بيانِ معجِزاتِ الرسولِ صلعم، وإخبارِهِ بالمغيَّباتِ ووقوعِها كما أخبَرَ.
          وفيه: فضلُ المشورةِ، وأنَّ الكبيرَ لا نقصَ عليه في مشاوَرةِ مَن هو دونَه، وأنَّ المفضولَ قد يكونُ أميراً على الأفضلِ؛ لأنَّ الزُّبيرَ بنَ العوَّامِ كان في جيشٍ عليه فيه النُّعمانُ بنُ مقرِّنٍ، والزُّبير أفضلُ منه اتِّفاقاً، ومثلُه: تأميرُ عمرِو بنِ العاصِ على جيشٍ فيه أبو بكرٍ وعمرُ.
          وفيه: ضربُ المثَلِ، وجودةُ تصوُّرِ الهُرمُزانِ، ولذلك استشاره عمرُ، وتشبيهُ الغائبِ المحسوسِ بحاضرٍ محسوسٍ لتقريبِه إلى الفهمِ، وفيه: البَداءةُ بقتالِ الأهمِّ فالأهمِّ، وبيانُ ما كان العربُ عليه في الجاهليةِ من القهرِ وشظَفِ العيشِ.
          وفيه: الإرسالُ إلى الإمامِ بالبِشارةِ، وفضلُ القتالِ بعد الزَّوالِ على ما قبلَه، ولا يعارِضُه ما تقدَّمَ في الجهادِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يغيرُ صباحاً؛ لأنَّ هذا عند المصافَفةِ، وذاك عند الغارةِ.