الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يحذر من الغدر

          ░15▒ (باب مَا يُحْذَرُ) بسكونِ الحاء المهملةِ مبني للمفعول من حذِر _بكسرِ الذال المعجمةِ_ من باب علم، والجملة: صلةُ ((ما)) أو صفتُها المضافُ إليها البابُ، ولأبي ذرٍّ: <ما يَحذَّر> بفتحِ الحاء المهملةِ وتشديد الذال المعجمةِ؛ أي: يخافُ (مِنَ الْغَدْرِ) بيانٌ لـ ((ما)).
          (وَقَوْلِ اللَّهُ) كذا لأبي ذرٍّ، ولغيره: <وقولِه> (تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ...} [الأنفال:62] الآيَةَ) ولابنِ عساكرَ: <{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} إلى قوله: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}> هذه الآيةُ في أواخرِ سورةِ الأنفال، فنتكلَّمُ عليها، فنقول:
          {وَإِنْ يُرِيدُوا} أي: المشركون {أَنْ يَخْدَعُوكَ} أي: بالصُّلحِ ليتقوَّوا ويستعِدُّوا لقتالِكَ وللغدرِ بك {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} بسكونِ المضاف؛ أي: كافيك.
          قال في ((الفتح)): في هذه الآية إشارةٌ إلى أنَّ احتمالَ أن يطلُبَ العدوُّ الصُّلحَ خديعةً لا يمنعُ من الإجابةِ إذا ظهرت للمسلمين، بل يعزِمُ ويتوكَّلُ على الله سبحانه.
          وقال البَيضاويُّ: فإنَّ مُحسِبَك اللهُ وكافيك، قال جريرٌ في هَجرِ قومِه:
إِنِّي وَجَدْتُ مِنَ المكَارِمِ حَسْبَكُم                     أَنْ تَلبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وتَشْبَعُوا
          {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: بأن نصَرَك على أعدائكَ / بملائكتِهِ {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي: بالأنصَارِ، أو أعمَّ منهم {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمعَها ووفَّقَ بينها في أدنى شَيءٍ بالآياتِ البَاهرةِ معَ مَا في العربِ من مَزِيدِ العصبيَّةِ والحَميَّةِ والضَّغائنِ والتَّهالُكِ على الانتقَامِ من بعضِهم بعضاً، بحيثُ لا يكادُ يتآلفُ فيهم قلبانِ، حتى صَاروا كنفسٍ واحدةٍ {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي: على التَّأليفِ بينهم {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: لتَناهِي عَداوتِهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي: بقُدرتِهِ البالغةِ، فإنَّه المالكُ للقلوبِ، يقلِّبُها كيف شاء، ويصنعُ فيها ما أرادَ {إِنَّهُ عَزِيزٌ} أي: تامُّ القُدرةِ والغلَبةِ، لا يتخلَّفُ عليه ما يريدُ {حَكِيمٌ}.
          قال البَيضاويُّ: أي: يعلمُ أنه كيف ينبغِي أن يفعلَ ما يريدُ، قال: وقيل: الآيةُ في الأوسِ والخزرجِ، كان بينهم احَنٌ لا أمَدَ لها، ووقَائعُ هلكَتْ فيها سادتُهم، فأنسَاهمُ الله ذلك، وألَّفَ بينهم بالإسلامِ، حتى تصَافَوا وصَاروا أنصاراً، وعادوا إخواناً، وما ذلك إلَّا بلطيفِ صَنعتِهِ، وبليغِ قدرتِهِ، وعزيزِ حِكمتِهِ.