الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي

          ░17▒ (باب كَرَاهِيَةِ) بتخفيف التحتية (التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ) ((التطاوُل)) بضم الواو، مصدرُ تَطاولَ على كذا؛ ترفَّعَ عليه، ففي ((المصباح)): طالَ الشيءُ طُولاً _بالضم_؛ امتدَّ طرَفاه، وطالتِ النخلةُ: ارتفعَتْ، قيل: هو من بابِ قَرُبَ، حملاً على نقيضِهِ؛ وهو قَصُرَ، وقيل: من بابِ: قال، والفعلُ لازمٌ، ثم قال: وطالَ على القومِ يطُولُ طَوْلاً، من باب قالَ؛ إذا فَضَلَ، فهو طائلٌ، وأطالَ _بالألفِ_ وتطوَّلَ كذلك، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): والمرادُ مجاوزةُ الحدِّ في ذلك.
          (وَقَوْلِهِ) وفي بعض النُّسَخ: <وقولِ الرجلِ> وهو مجرورٌ عطفاً على ((التطاولِ)) لا على ((كراهيةِ)) كما قال العينيُّ، وعليه فلا يكونُ مكروهاً؛ أي: وبابُ كراهيةِ قولِ الشَّخصِ لمَنْ يملِكُه من الرَّقيقِ.
          (عَبْدِي أوْ أَمَتِي) وأو للتَّقسيم، وفي بعض النُّسخ: بالواو.
          قال شيخ الإسلام: والكراهيةُ فيهما للتنزيه، وسببُها اشتراكُ اللفظ؛ إذ يقال: عبدُ الله وأمَةُ الله، فعُلِمَ أنَّ ذلك جائزٌ وإنْ كُرِهَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): واتَّفقَ العلماءُ على أنَّ النَّهيَ الواردَ للتنزيهِ حتى أهلُ الظاهرِ، إلا ما سنذكرُه عن ابنِ بطَّالٍ في لفظ: الرَّبِّ، انتهى.
          وذلك لأنَّ الكلَّ عَبيدُ الله، واللهُ لطيفٌ بعباده رفيقٌ بهم، فينبغي للسادةِ امتثالُ ذلك في عَبيدِهم، ومَن ملَّكهمُ اللهُ إياهم، ويجبُ عليهم حسنُ المِلك ولينُ الجانبِ، كما يجبُ على العبيد حسنُ الطاعةِ والنُّصحِ لساداتِهم والانقيادِ لهم وتركِ مخالفتِهم.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) وفي بعض النُّسَخ: <وقال الله ╡> وفي بعضٍ آخرَ: <وقولِ الله ╡> أي: في ((سورة النور)).
          ({وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}) ذكر البخاريُّ هذه الآياتِ دليلاً على جوازِ قولِ الشَّخصِ ما ذُكِرَ، ووجهُ دَلالةِ الأولى ظاهرٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أمرَ فيها بنكاحِ الصَّالحينَ من العبيدِ والإماء، فإنَّ {الصَّالِحِينَ} معطوفٌ على الأيامى، من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وبيَّنَ الصالحينَ بقوله: {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} والعبادُ جمعُ: عبدٍ؛ وهو الذَّكرُ من الأرقَّاءِ، والإماءُ جمعُ: أمَةٍ، وهي الأُنثى من الرَّقيق.
          (وَقَالَ) أي: اللهُ تعالى ({عَبْداً مَمْلُوكاً}) هذا في سورة النحل، وقبلَه: و{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} [النحل:75] وتقدَّمَ الكلامُ على الآيةِ في باب: مَن مَلَكَ منَ العرَبِ رقيقاً.
          ({وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]) سقط: <وقال> قبلَه، وهذا في سورة يوسُف، و{أَلْفَيَا} أي: وجَدَ يوسُفُ وزُلَيخا زوجَها العزيزَ عند بابِ بيتِه.
          وقال العَينيُّ: أي: وصادَفا ولقِيا بعلَها؛ وهو قِطفِيرُ، وإنَّما قال: {سَيِّدَهَا} ولم يقل: سيِّدَهما؛ لأنَّ مِلكَ يوسُفَ لم يصِحَّ، فلم يكُنْ سيداً له على الحقيقةِ، انتهى / .
          وكأنَّ وجهَ ذكرِها أنَّ السَّيدَ يُشعِرُ بالعبدِ، فيقتضِي جوازَه.
          (وَقَالَ) أي: اللهُ تعالى في سورة النساء ({مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}) جمعُ فتاة؛ وهي الأمَةُ، والجارُّ والمجرورُ بيانٌ لـ((ما ملكت)) من قولِهِ تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [لانساء:25].
          وقوله: ({الْمُؤْمِنَاتِ}) نعتٌ مخصِّصٌ لإخراجِ الكافراتِ، فلا يحِلُّ نِكاحُ الأمَةِ الكافرةِ، ولو وُجدَتْ شروطُ نكاحِ الأمَةِ المسلمةِ.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم) أي: مما وصلَه البخاريُّ في المغازي من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ ☺ (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) المأمورون بالقيام الأنصارُ، وسيِّدُهم هو سعدُ بنُ معاذٍ ☺ وعنهم، وذلك لأنَّ بني قُريظةَ نزلوا من حصونِهم _لمَّا حُوصِروا_ على حُكمِ سعدِ بنِ مُعاذٍ، فأرسلَ النبيُّ صلعم إلى سَعدٍ، فأتى راكباً على حمارٍ، فلما دنا من المسجد، قال النبيُّ صلعم للأنصار: ((قوموا إلى سيِّدِكم)) ففيه الأمرُ بالقيامِ للقَادمِ ولقائهِ، فهو سُنَّةٌ إذا كان القيامُ لا على سبيلِ التَّفاخرِ، وينبغي للقادمِ أن لا يُحبَّ ذلك، وقد ألَّفَ النوويُّ في ذلك جزءاً سماه: ((الترخُّص في الإكرامِ بالقيام)) وقد نظَمتُ ذلك بقولي:
قِيَامِي عَلى الأَقْدَامِ حَقٌّ وسَعْيُها                     لرُؤيَاكَ يا فَرْدَ الزَّمانِ أَكِيدُ
فقَدْ أمَرَ المخْتَارُ أنصَارَهُ بِهِ                     لسَعدِ الَّذِي قَدْ مَاتَ وهُوَ شَهِيدُ
          (وقال) أي: اللهُ تعالى حاكياً عن يوسُفَ مُخاطباً للذي ظنَّ أنَّه ناجٍ (وَ{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] سَيِّدِكَ) بالجرِّ بدلٌ من {رَبِّ} أو عطفُ بيانٍ، أو نعتٌ، ولأبي ذرٍّ: <و{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} عند سيِّدِك> وفي بعض النُّسَخ: <يعني: عندَ سيِّدِك> أي: واذكُرْ حالي وصِفَتي عند سيِّدِك؛ أي: ليخلِّصَني.
          قال في ((المصابيح)): ساق المصنِّفُ في البابِ قولَ اللهِ تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقولَ النبيِّ صلعم: ((قوموا إلى سيِّدكم)) تنبيهاً على أنَّ النَّهيَ إنما جاءَ متوجِّهاً على السَّيدِ؛ إذ هو في مَظِنَّةِ الاستطَالةِ، وأنَّ قولَ الغيرِ: هذا عبدُ زَيدٍ، وهذه أمَةُ خالدٍ، جائزٌ، والآيةُ والحديثُ مما يؤيِّدُ هذا الفَرقَ، وفي الحكاياتِ المأثورةِ أنَّ سائلاً وقفَ ببعضِ الأحياءِ فقال: مَن سيِّدُ هذا الحيِّ؟ فقال رجلٌ: أنا، فقال: لو كنتَ سيِّدَهم لم تقُلْه.
          (وَمَنْ سَيِّدُكُمْ) سقطَ هذا لأبوَي ذرٍّ والوَقتِ والنَّسفيِّ: ((ومَنْ)) استفهاميَّةٌ مبتدأٌ، و((سيِّدُكم)) خبرُه، ويجوزُ العكسُ، وهذا تعليقٌ مما وصلَه المصنِّفُ في ((الأدب المفرد)) من حديثِ جابرٍ بلفظ: قال: قالَ رسولُ الله صلعم: ((مَنْ سيِّدُكم يا بَني سلِمةَ؟)) قلنا: الجَدُّ بنُ قيسٍ على أنَّا نبخِّلُه، قال: ((وأيُّ داءٍ أدوى من البخلِ؟ بل سيِّدُكم عَمرُو بنُ الجَمُوح)) وكان عمرٌو على أصنامِهِم في الجاهليَّةِ، ثم أسلمَ، وكان يُولِمُ عن رسولِ الله صلعم إذا تزوَّجَ، وأخرجَه الحاكمُ من طريقِ محمَّدِ بنِ عمرٍو عن أبي سلَمةَ عن أبي هريرةَ نحوَه، ورواهُ ابنُ عائشةَ في ((نوادره)) من طريق الشَّعبيُّ مُرسَلاً، وزاد: قال: فقال بعضُ الأنصَار في ذلك:
وقالَ رسُولُ اللهِ والقَولُ قَولُه                     لمَنْ قال منَّا مَنْ تسمُّونَ سيِّدا
فقَالُوا لهُ جَدُّ بنُ قَيسٍ عَلى الَّتِي                     نُبخِّلُه فيهَا وإنْ كَانَ أَسْوَدا
فسوَّدَ عمرَو بنَ الجَموحِ لجُودِه                     وحُقَّ لعمرٍو بالنِّدا أنْ يُسوَّدا
          انتهى.
          والجَدُّ كما في ((الفتح)) _بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة_، هو: ابنُ قَيسِ بنِ صخرِ بن خَنْساءَ بنِ سنانِ بنِ عُبيدِ بنِ عَديِّ بنِ غَنْمِ _بسكون النون_ ابنِ كعبِ بنِ سَلِمةَ _بكسر اللام_ يُكنَى: أبا عبدِ الله / له ذكرٌ في حديثِ جابرٍ أنه حملَه معَه في بيعةِ العقَبةِ.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: كان يُرمى بالنفاقِ، ويُقال: إنه تابَ وحسُنَتْ توبتُه، وعاشَ إلى أن ماتَ في خلافةِ عُثمانَ، وأما عمرو بنُ الجَموحِ _فبفتح الجيم وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة_ ابنِ زيدِ بنِ حَرامِ _بمهملتين_ ابنِ كعبِ بنِ غَنمِ بنِ كعبِ بنِ سَلِمةَ.
          قال ابنُ إسحاقَ: كان من ساداتِ بني سَلِمةَ، وذكر له قصَّتَه في صنمِهِ وسببَ إسلامِهِ، وقولَه فيه:
تاللَّهِ لَو كنْتَ إِلهاً لمْ تكُنْ                     أنْتَ وكَلْبٌ وسَطَ بئرٍ فِي قَرْنِ
          وروى أحمدُ وعمرُ بنُ شَبَّةَ في ((أخبارِ المدينةِ)) بإسنادٍ حسنٍ عن أبي قتادةَ: أنَّ عمرَو بنَ الجَموحِ أتى رسولَ الله صلعم، فقال: أرأيتَ إن قاتَلتُ حتى أُقتَلَ في سبيلِ اللهِ، تُراني أمشِي برِجلِي هذه صَحِيحةً في الجنَّة؟ فقال: ((نعم)) وكانَتْ عَرْجاءَ، زاد عمرُ بنُ شبَّةَ: فقُتِلَ يومَ أحُدٍ هو وابنُه خالدٌ.
          وقد روى ابنُ مندَه وأبو الشَّيخِ في ((الأمثال)) والوليدُ بنُ أَبانَ في كتابِ ((الجود)) له من حديثِ كعبِ بنِ مالكٍ: أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((مَن سيِّدُكم يا بني سَلِمةَ؟)) قالوا: جَدُ بنِ قيسٍ، فذكر الحديثَ، فقال: ((سيِّدُكم بِشرُ بنُ البراءِ بنِ مَعْرورٍ)) وهو بسكون العين المهملة، ابنِ صخرٍ، يجتمِعُ مع عَمرِو بنِ الجَموحِ في صخرٍ، ورجالُ هذا الإسنادِ ثقاتٌ، إلَّا أنَّه اختُلِفَ في وَصلِهِ وإرسالِه على الزُّهريِّ.
          ويمكنُ الجمعُ بأن تُحمَلَ قصَّةُ بشرٍ على أنها كانت بعد قتلِ عمرِو بنِ الجَموحِ جَمعاً بين الحديثَين، وماتَ بشرٌ المذكورُ بعد خيبرَ، أكلَ مع النبيِّ صلعم من الشاةِ التي سُمَّ فيها، وكان قد شَهِدَ العقَبةَ وبدراً، ذكره ابنُ إسحاقَ وغيرُه، وفي ما ذكره المصنف يحتاجُ إلى تأويلِ الحديثِ الوارد في النهيِ عن إطلاقِ السيدِ على المخلوق، وهو ما رواه أبو داودَ والنَّسائيُّ، والمصنِّفُ في ((الأدب المفرد)) عن عبدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ بسَندٍ رجالُه ثقاتٌ، وصحَّحَه غيرُ واحدٍ، ويمكِنُ الجمعُ بأن يُحمَلَ النَّهيُ عن ذلك على إطلاقِه على غيرِ المالك، والإذنُ بإطلاقِه على المالك، وقد كان بعضُ أكابِرِ العلماءِ يأخُذُ بهذا، ويُكرَهُ أن يخاطِبَ أحداً بلفظِهِ أو كتابتِه بالسيد، ويتأكَّدُ هذا إذا كانَ المخاطَبُ غيرَ تقيٍّ، فعند أبي داودَ والمصنِّفِ من حديثِ بُرَيدةَ مرفوعاً: ((لا تقولوا للمنافق سيداً...)) الحديثَ، ونحوُه عند الحاكم، ثم أوردَ المصنِّفُ في البابِ غيرَ هذَين التعليقَينِ سبعةَ أحاديثَ، فقال: