الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة

          ░6▒ (باب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ) أي: بيانِ حُكمِهما، قال شيخُ الإسلام: ((الخطأ)) يُقصَرُ ويُمَدُّ، والمرادُ هنا نَقيضُ العَمْد، ومنه: المخطئُ، وهو مَنْ أراد الصَّوابَ فصارَ إلى غيرِه، وأما الخاطئُ فهو المتعمِّدُ لِما لا ينبغي، و((النِّسيان)) معنًى يزولُ به العِلمُ بالمَنسيِّ خاصَّةً، ويطولُ زمنُ زوالِه، فإنْ قَصُرَ يُسمَّى سهواً، وقيلَ بترادُفِهما، انتهى.
          ويقال: الخِطْء _بكسر الخاء وسكون الطاء_ مصدراً أيضاً، وبمعنى: الذَّنْبِ، وقال في ((المصباح)): الخطأُ _مهموزاً بفتحتين_ ضدُّ الصَّواب، فيُقصَرُ ويُمدُّ، وهو اسمٌ مِنْ: أخطأ، فهو مُخطِئٌ، قال أبو عُبيدٍ: خَطِئَ خطأً من بابِ: عَلِمَ، وأخطأَ بمعنًى واحدٍ لمَنْ يُذنِبُ على غيرِ عَمْدٍ، وقال غيرُه: خَطِئَ في الدَّينِ، وأخطأَ في كلِّ شيءٍ عامداً، وغيرُه، وقيل: خَطِئَ إذا تعمَّدَ ما نُهيَ عنه، فهو خاطئٌ، وأخطأَ إذا أراد الصَّوابَ فصارَ إلى غيرِه، فإذا أرادَ غيرَ الصَّوابِ وفعَلَه قيل: قصَدَه وتعمَّدَه، والخطأ الذَّنبُ تسميةً بالمصدرِ، انتهى.
          (فِي الْعَتَاقَةِ) بفتح العين؛ أي: في الإعتَاقِ، حالٌ من سابِقَيه.
          (وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ) أي: المذكورِ، ولهذا أفرَدَ الضَّميرَ مع أنَّ مُقتضَى الظَّاهرِ: ونحوِهما، وقال شيخُ الإسلام: أي ونحوِّ كلٍّ منهما من الأشياء التي يريدُ الشَّخصُ أن يتلفَّظَ بشيءٍ منها، فيسبِقَ لسانُه إلى غيرِه، كأنْ يقولَ لعَبدِه: أنتَ حُرٌّ، ولامرأتِه: أنتِ طالقٌ، من غيرِ قَصْدِ اللفظ بمعناه، كما جَهِلَ معناه أو سَبَقَ لسانُه إليه، فلا يحنَثُ، لكنَّ قصدَ المعنى إنَّما يُعتبَرُ ظاهراً عند عروضِ ما يصرِفُ الطَّلاق مثلاً عن معناه، كقولِه لمَنِ اسمُها طالقٌ: يا طالقُ، ولم يقصِدْ طلاقاً، ولمَنِ اسمُها طارقُ أو طالبُ: يا طالِقُ، وقال: أردتُ نِداءً، فالتفَّ الحرفُ، وكقوله: طلَّقتُكِ، وقال: سبَقَ لساني، وإنَّما أردتُ: طلبتُكِ، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: فقالتِ الحنفيَّةُ: يلزَمُه الطلاقُ، وقال الشافعيَّةُ: مَنْ سبقَ لسانُه لا يقَعُ طلاقُه، لكن لا يُقبلُ في الظاهرِ، فلذا نصَّ الشَّافعيُّ على أنَّه لا يسَعُ امرأتَه أن تقبَلَ منه إلَّا إذا وجدَتْ قرينةً تدُلُّ عليه، فيُقبَل، وحكى الرُّويانيُّ عن صاحبِ ((الحاوي)) وغيرِه أنَّ هذا فيما إذا كان الزَّوجُ متَّهَماً، فإنْ ظنَّتْ صِدقَه بأمَارةٍ، فلها أن تقبَلَ قولَه، قال الرُّويانيُّ: وهذا هو الاختيارُ، ومِثلُه العتقُ، نعم، لا يُقبَلُ قولُ الهازل فيهما ظاهراً ولا باطناً، فلا يَدينُ، انتهى مُلخَّصاً.
          وقال العينيُّ: قال أصحابُنا: طلاقُ الخاطئ والناسي والهازِلِ واللاعبِ، والذي تكلَّمَ به من غيرِ قصدٍ واقعٌ، وصورةُ الناسي فيما إذا حلَفَ ونَسِيَ، انتهى.
          وفي ((التوضيح)): واختلَفَ العلماءُ في الناسي في يمينِه: هل يلزَمُه حِنثٌ أم لا؟ فقيل: لا، وهو قولُ عطاءٍ وأحدُ قولَي الشَّافعيِّ، وبه قالَ إسحاقُ، وإليه ذهبَ البخاريُّ، وقال الشَّعبيُّ: مَنْ أخطأَ في الطَّلاقِ فله نيَّتُه، وفي قولٍ ثالثٍ: يحنَثُ في الطَّلاقِ خاصَّةً، وبه قال أحمدُ، وذهبَ مالكٌ والكوفيُّونَ إلى أنَّه يحنَثُ في الخطأِ أيضاً، وادَّعى ابنُ بطَّالٍ أنَّه الأشهرُ عن / الشافعيِّ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وكأنَّ المصنِّفَ أشارَ إلى ردِّ ما رُويَ عن مالكٍ أنه يقَعُ الطلاقُ والعِتاقُ عامداً كان أو مُخطئاً، ذاكراً كان أو ناسياً، وقد أنكرَه كثيرٌ من أهلِ مذهَبِه، انتهى، فاعرِفْه.
          (وَلاَ عَتَاقَةَ) أي: ولا إعتاقَ (إِلاَّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: لذاتِهِ، أو لرِضَاه، قال في ((الفتح)): ومُرادُه بذلك اعتبارُ النيةِ؛ لأنَّه لا يظهرُ كونُه لوجْهِ الله إلا مع القصْدِ، ونُقلَ معنى ذلك عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وأشار المصنِّفُ بذلك إلى الردِّ على مَنْ قال: مَنْ أعتقَ عبدَه لوجهِ الله، أو للشيطان، أو للصَّنَم، عتَقَ؛ لوجودِ رُكنِ الإعتاقِ، والزيادةُ على ذلك لا تُخِلُّ بالعتقِ، انتهى.
          وقال أيضاً: وفي الطَّبرانيِّ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً: ((لا طلاقَ إلا لعِدَّةٍ، ولا عِتاقَ إلا لوجهِ الله)) انتهى.
          و((عِدَّة)) بكسر العين المهملة وتشديد الدال؛ أي: لوقتِ عِدَّةٍ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ قصدَ الطلاقِ لا بدَّ منه ليخرُجَ مَنْ سبَقَ لسانُه، أو أنَّ هذا محمولٌ على ما لم يكُنْ صريحاً، فإنَّ ذلك لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ، فتدبَّر.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: لِكُلِّ امْرِئٍ) بالهمز (مَا نَوَى) أوردَه بهذا اللفظِ في أواخرِ الإيمان، ووصلَه المصنِّفُ في أولِ الكتاب، لكنْ بلفظِ: ((ولامرئٍ ما نوى)).
          قال العينيُّ: كأنَّه أرادَ بهذه القطعةِ تأكيدَ ما سبقَ من عدَمِ وقوعِ العِتاقِ إذا كان لغيرِ وجهِ الله تعالى.
          (وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ) وقع للقَابِسيِّ: <الخاطئ> بدلَ: ((المخطئ)) وفسَّروا ((المخطئِ)) بأنَّه: مَنْ أرادَ الصَّوابَ فصارَ إلى غيره، و((الخاطئ)): مَنْ تعمَّدَ ما لا ينبغِي، قاله في ((الفتح)) وقال فيه أيضاً: أشار المصنِّفُ بهذا الاستنباطِ إلى بيانِ أخذِ الترجمةِ من حديثِ: ((الأعمالُ بالنِّياتِ)) قال: ويحتمِلُ أنه أشارَ بالترجمةِ إلى حديثٍ وردَ في بعضِ طُرُقِه كعادتِهِ، وهو ما ذكرَه أهلُ الفقهِ والأصولِ بلفظ: ((رُفِعَ عن أمَّتي الخطأُ والنِّسيانُ وما استُكرِهوا عليه)) أخرجَه ابنُ ماجه عن ابنِ عبَّاس، لكنْ بإبدال: ((رُفِعَ)) بـ: ((وُضِعَ)) ورجالُه ثِقاتٌ، لكنَّه أُعِلَّ بعلَّةٍ غيرِ قادحةٍ، انتهى.
          ثم قال: وزادَ ابنُ ماجه: عن هشامِ بنِ عمَّارٍ، عن ابن عُيينةَ، في آخره: ((وما استكرهوا عليه)) قال: وأظنُّها مُدرجةً من حديثٍ آخرَ، دخلَ على هشامٍ حديثٌ في حديث، انتهى، فتأمَّلْه.
          إذ الأصلُ عدمُ الإدراج، وأخرجَه الدارقُطنيُّ والحاكمُ والطبَّرانيُّ، وهو حديثٌ جليلٌ، قال بعضُ العلماء: ينبغي أن يُعَدَّ نصفَ الإسلام؛ لأنَّ الفعلَ إما عن قصدٍ واختيارٍ أو لا، الثاني ما يقعُ عن خطأٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ، وهذا القسمُ معفوٌّ عنه باتفاقٍ، وإنما اختلفَ العلماءُ؛ هل المعفوُّ عنه الإثمُ أو الحكمُ، أو هما معاً، وظاهرُ الحديثِ الأخيرُ، وما خرجَ عنه كالقتلِ فلدليلٍ منفصلٍ، انتهى.
          وقال العينيُّ: هذا الحديثُ صحيحٌ، أخرجَه الطَّحَاويُّ بسندٍ رجالُه رجالُ الصحيح غيرَ شيخِه، عن ابن عباسٍ بلفظ: قال رسولُ الله صلعم: ((تجاوزَ الله لي عن أمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكرِهوا عليه)) قال: وأخرجَه بنحوِه الدارقُطنيُّ والطبَرانيُّ والحاكمُ، ورواه ابنُ حزمٍ وصحَّحَه.
          وقال النوويُّ في الأربعين: حديثٌ حسَنٌ، وأما حديثُ ابنُ ماجَهْ، فقد أُعِلَّ، انتهى ملخَّصاً.