الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية

          ░13▒ (باب مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ) بكسر الميم، بيانٌ لـ((من)) بفتحِها، و((العَرَبِ)) بفتحتين، وبضمٍّ فسكون، خلاف العَجَم، سُمُّوا بذلك على الأصحِّ لأنَّ إسماعيلَ / أباهم نشأَ بعَرَبَةٍ _بفتحات_.
          وقال في ((القاموس)): العَرَبةُ _محرَّكة_ ناحيةٌ قُربَ المدينة، وأقامَتْ قُريشٌ بعَرَبةَ، فنُسِبَ العربُ إليها، وهي باحةُ العرَبِ، وباحةُ دارِ أبي الفَصاحةِ إسماعيلَ عليه السلام، انتهى.
          (رَقِيقاً) مفعولُ ((ملك)) (فَوَهَبَ) أي: مَنْ ملَكَ (وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى) الأفعالُ الأربعةُ المبنيَّةُ للفاعل معطوفةٌ على ((ملك)) عطفَ مسبَّبٍ في الجملةِ على سَببِهِ، وليس تفصيلاً لقولِهِ: ((ملك)) كما قاله العَينيُّ، فتدبَّر.
          ومفعولاتُها محذوفةٌ لدلالةِ مفعولِ ((ملك)) عليها (وَسَبَى) بفتح الموحدة والسين المهملة (الذُّرِّيَّةَ) بضم الذال المعجمة وتشديد الراء، وأصلُها ذُرِّيئةٌ بالهمز، فأُبدِلَتْ ياءً وأُدغِمَتْ في الياء، مِن ذرأَ كذا _بالهمز_، خلقَه قال في ((الفتح)): هذه الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ الخِلافِ في استرقاقِ العربِ، وهي مسألةٌ مشهورةٌ، والجمهورُ على أنَّ العربيَّ إذا سبى جازَ أن يسترِقَّ، وإذا تزوَّجَ أمَةً بشَرطِه كان ولدُها رقيقاً، وذهب الأوزاعيُّ والثَّوريُّ وأبو ثورٍ إلى أنه يلزَمُ سيِّدَ الأمَةِ تقويمُ الولد، ويُلزَمُ أبوه بأداءِ القيمة، ولا يُسترَقُّ الولدُ أصلاً، وقد جنَحَ المصنِّفُ إلى الجواز، وأورد الأحاديثَ الدالَّةَ على ذلك إلا في البيعِ، وسيأتي بيانُها مع بيانِ الاختلافِ في ذلك بأبسَطَ.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بجرِّ ((قول)) عطفاً على ((مَنْ)) المضافِ إليها ((باب)) وفي بعضِ النُّسخ: <وقولِ الله تعالى> ({ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً}) بدلٌ من {مَثَلاً} أو عطفُ بيانٍ، ووقعَ في روايةِ أبي ذرٍّ: <وقولِ اللهِ تعالى: {عَبْداً}> بحَذفِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} والمثَلُ _بفتحتين_ أصلُه: كلامٌ شُبِّهَ مَضرِبُه بمَورِدِه، كقولهم: الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ({مَمْلُوكاً}) أي: للغير.
          وجملةُ: ({لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}) صفةٌ ثانيةٌ لـ{عَبْداً} أو حالٌ منه، والمرادُ: لا يملِكُ أيَّ شيءٍ كان، فيخرُجُ المكاتَبُ والمأذونُ له في التِّجارة، فإنهما يقدِرانِ على التصرُّفِ في الجُملةِ، وقيَّدَ به ليميِّزَ بينَه وبين الحرِّ المرادِ بقوله: ({وَمَنْ رَزَقْنَاهُ}) و{مَنْ} عطفٌ على {عَبْداً} وجملةُ {رَزَقْنَاهُ} صلةٌ لـ{مَنْ} أو صفةٌ ({مِنَّا رِزْقاً حَسَناً}) أي: حلالاً أو مستلَذَّاً.
          وجملةُ: ({فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً}) متسبِّبةٌ عن {رَزَقْنَاهُ} واختُلِفَ في المرادِ من هذا المثَلِ، فروى العَوفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ هذا مَثَلٌ ضرَبَه اللهُ للكافرِ والمؤمنِ، واختارَه ابنُ جريرٍ، فالعبدُ المملوكُ مثلُ الكافرِ والعبدُ المرزوقُ ما ذُكِرَ مثلُ المؤمن، وروى ابنُ أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ أنَّه مثَلٌ مضروبٌ لعابدِ الوثنِ وللحَقِّ تعالى؛ أي: مثَلُكُم في إشراكِكِم بالله للأوثان مِثلُ مَنْ سوَّى بين عبدٍ مملوكٍ صِفتُه ما ذُكِرَ وبين حرٍّ موصوفٍ بما ذُكِرَ ({هَلْ يَسْتَوُونَ}) أي: لا يستوون؛ العبدُ المذكورُ والحرُّ الموصوفُ بما ذُكِرَ، وفي جعلِ العبدِ قَسِيماً للحُرِّ إشارةٌ إلى أنَّ العبدَ لا يملِكُ.
          وعبارةُ البيضاويِّ: مثَّلَ ما يُشرَكُ باللهِ تعالى بالمملوكِ العاجِزِ عن التَّصرُّفِ رأساً، ومثَّل نفسَه تعالى بالحُرِّ المالِكِ الذي رزقَه اللهُ مالاً كثيراً، فهو يتصرَّفُ فيه ويُنفِقُ منه كيفَ يشاءُ.
          واحتُجَّ بامتِناعِ الإشراكِ والتَّسويةِ بينهما مع تشارُكِهما في الجنسيَّةِ والمخلوقيَّةِ على امتِناعِ التَّسويةِ بين الأصنامِ التي هي أعجَزُ المخلوقاتِ وبينَ الله تعالى الغنيِّ القادرِ على الإطلاقِ.
          وقيل: هو تمثيلٌ للكافرِ المخذولِ والمؤمنِ الموفَّق، وتقييدُ العبدِ بالمملوكِ للتَّمييزِ من الحُرِّ، فإنه أيضاً عبدُ الله، وبسلبِ القدرةِ للتَّمييزِ عن المكاتبِ / والمأذونِ، وجَعلُه قَسيماً للمالكِ المتصرِّفِ يدُلُّ على أنَّ المملوكَ لا يملِكُ، والأظهرُ أنَّ {مَنْ} موصوفةٌ ليُطابِقَ {عَبْداً} وجمعَ الضَّميرَ في {لَا يَسْتَوُونَ}؛ لأنَّه للجنسَين، فإن المعنى: هل يستوي الأحرارُ والعبيدُ.
          ({الْحَمْدُ لِلَّهِ}) أي: لا لغيرِه، فهو المستحِقُّ له فضلاً عن عبادتِهِ؛ لأنَّه مَولى النِّعمِ كلِّها ({بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}) لأنَّهم يُضيفونَ نعمَه إلى غيرِه، ويعبدونَه لأجلِها.
          وقال ابنُ المنيِّر: مناسبةُ الآيةِ للترجمةِ من جهةِ أنَّ اللهَ تعالى أطلقَ العبدَ المملوكَ ولم يقيِّدْه بكونِه عجَميًّا، فدلَّ على أنَّه لا فرقَ في ذلك بين العربيِّ والعجَميِّ، انتهى.
          وقال ابنُ بطَّال: تأوَّلَها بعضُ الناس بأنَّ العبدَ لا يملِكُ، وفيه نظرٌ؛ فإنَّ العبدَ نَكِرةٌ في الإثبات، فلا عمومَ لها، وذكَرَ قتادةُ أنَّ المرادَ به الكافرُ خاصَّةً، نعم؛ مذهبُ الجمهورِ أنَّ العبدَ لا يملِكُ شيئاً، لحديثِ ابنِ عمرَ المارِّ في الشُّربِ وغيرِه، وقالت طائفةٌ: يملكُ، ورُويَ عن عمرَ وغيرِه، واختلفَ قولُ مالكٍ فقال: مَنْ باعَ عبداً وله مالٌ، فمالُه للذي باعَه إلا بشرط، وقال فيمَن أعتَقَ عبداً وله مالٌ، فالمالُ للعبدِ إلَّا بشَرطٍ. انتهى.