الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أيما رجل أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه

          2517- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) نسبةٌ لجدِّه لشهرتِهِ به، وإلَّا: فهو أحمدُ بنُ عبدِ الله التَّيميُّ اليَربوعيُّ، قال: (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أي: ابنِ زيدِ بنِ عبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ ☺، وعاصمٌ هذا أخو واقدِ بنِ محمدٍ، قال:
          (حَدَّثَنِي) بالإفراد لغَيرِ أبي ذرٍّ (وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) ((واقدُ)) بالقاف والدال المهملة؛ هو أخو عاصِمٍ الذي قبلَه، قال: (حَدَّثَنِي سَعِيدٌ) بوزنِ: أمير (ابْنُ مَرْجَانَةَ) بفتح الميم وسكون الراء فجيم فألف فنون فهاء تأنيث، اسمُ والدةِ سعيد، وتلطَّفَ الكرمانيُّ فقال: ((مَرْجانة)) أختُ اللُّؤلؤةِ، أمُّ سعيد، انتهى.
          فإنه أرادَ أنَّ المَرْجانةَ نظيرةُ اللُّؤلؤةِ، ولا تتوهَّمْ أنَّ مَرْجانةَ أمَّ سعيدٍ لها أختٌ امرأةٌ تُسمَّى اللُّؤلؤةَ ليقال: مَن هي؟ فافهم، واسمُ أبيه: عبدُ الله، وكُنيةُ سعيد: أبو عُثمانَ.
          وقوله: (صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) نعتُ ((سعيدٌ)) أو بدلٌ، ولأبي ذرٍّ: <ابنُ الحُسَين> بـ((ال)) التي للَّمحِ لا للتَّعريف، وعليٌّ هذا هو زينُ العابدين، وهو المشهورُ بعليٍّ الأصغرِ ابنِ الحسَينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ.
          قال في ((الفتح)): وليس له في البُخاريِّ إلا هذا الحديثُ، وذكرَه ابنُ حبَّانَ في التَّابعين، وأثبتَ روايتَهُ عن أبي هريرةَ، ثمَّ غَفَلَ فذكرَه في أتباعِ التَّابعين، وقال: لم يسمَعْ من أبي هريرةَ، ورُدَّ بأنَّه وقع التَّصريحُ بسماعِهِ منه عند مسلمٍ والنَّسائيِّ وغيرِهما، بل قال الكرمانيُّ: إنَّه من مَشاهيرِ التابعين، وكان له انقطاعٌ إلى عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليٍّ ♥، المشهورِ بزينِ العابدين، فلِذا عُرفَ بصُحبتِهِ، مات سنةَ سبعٍ وتسعين، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ووهَمَ مَنْ زعمَ أنه سعيدُ بنُ يسارٍ، أبو الحُباب، فإنَّه غيرُه عند الجمهورِ، انتهى.
          ورُدَّ أيضاً بقولِهِ هنا: (قالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ ☺: قَالَ النَّبِيُّ) وفي بعضِ الأصُول: <رسولُ الله> (صلعم: أَيُّمَا رَجُلٍ) بجرِّ ((رجلٍ)) في ((اليونينية)) وغيرِها لإضافةِ ((أيُّ)) الشَّرطيةِ إلى ((رجل))، و((ما)) زائدةٌ، زادَ الكِرمانيُّ ومَنْ تَبِعَه: وبالرَّفعِ على البدليَّةِ؛ أي: من ((أيُّ))، فالظاهرُ أنَّ ((ما)) زائدةٌ على الوجهَينِ لتأكيدِ العمومِ، فتدبَّرْ.
          وللإسماعيليِّ ومسلمٍ والنسائيِّ: ((أيُّما مسلمٍ)) ولا بدَّ من هذا القيدِ، بخلافِ الرجلِ؛ فإنَّه ليسَ للاحتِرازِ عن الأُنثى والخُنثى، فإنَّ حُكمَهما في هذا كالرَّجلِ، قال الكِرمانيُّ: إمَّا بالقياسِ، وإمَّا بقولِهِ: حُكمِي على الواحِدِ حُكمِي على الجَماعةِ، انتهى.
          (أَعْتَقَ) بالهمز، صفةُ ((رجلٍ)) وقولُه: (امْرَأً مُسْلِماً) الظاهرُ أنَّ هذا الوصْفَ مُعتبَرٌ، وإنْ كانَ عَتقُ الذِّميِّ فيه فضيلةٌ، بل ظاهرُ الآيةِ يَشمَلُه، ثم رأيتُه في ((الفتح)) نقَلَ عن ابنِ المنيِّرِ أنَّه قال: فيه إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي في الرَّقَبةِ التي تكونُ للكفَّارةِ أن تكونَ مؤمنةً؛ لأنَّ الكفَّارةَ مُنقِذةٌ من النَّار، فينبغِي أن لا تقَعَ إلا بمُنقِذةٍ من النَّار، انتهى، فتدبَّر.
          (اسْتَنْقَذَ) بالذال المعجمة بعد القاف، جوابُ ((أيُّ)) الشَّرطيةِ؛ أي: أنقذَ، فالسِّينُ ليست للطَّلبِ؛ أي: خلَّصَ / .
          (اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ) متعلِّقٌ بـ((استنقذ))، والباءُ للمُقابَلةِ، أو للسَّببيةِ؛ أي: أنقذَ اللهُ بسببِ عَتقِ كلِّ عضوٍ (مِنْهُ) أي: من المرء المسلمِ العَتيقِ (عُضْواً) مفعولُ ((استنقَذَ)) (مِنْهُ) أي: من المسلم المعتَقِ، و((منه)) في الموضعَينِ صفةُ ((عُضْو)) فيهما، وسقطَتْ ((منه)) الثانيةُ من بعضِ الأصُول الصَّحيحةِ.
          (مِنَ النَّارِ) متعلِّقٌ بـ((استنقذ)) وللمصنِّفِ في كفَّارةِ الأيمان: ((أعتقَ اللهُ بكلِّ عُضوٍ منها عُضواً من أعضَائهِ من النَّار، حتَّى فرجَه بفَرجِهِ)) وللنَّسائيِّ من حديثِ كعبِ بنِ مُرَّةَ بإسنادٍ صَحيحٍ: ((وأيُّما امرِئٍ مسلمٍ أعتَقَ امرأتَين مسلمتَين كانتا فِكاكَه من النَّار، عَظمَينِ منها بعَظمٍ، وأيُّما امرأةٍ مُسلمةٍ أَعتقَتِ امرأةً مسلمةً كانت فِكاكَها من النار)) ومثلُه للتِّرمذيِّ من حديثِ أبي أُمامةَ، وللطَّبرانيِّ من حديثِ عبد الرحمن بنِ عَوفٍ، ورِجالُه ثِقاتٌ، قد وردَ حديثُ العَتقِ من طُرُقٍ كثيرةٍ برواياتٍ مُتقاربةٍ، استَوفاها العَينيُّ كابن الملقِّن، منها غيرُ ما مرَّ آنفاً ما أخرجَه أبو داودَ والنَّسائيُّ من حديثِ شُرَحْبيلَ بنِ السِّمْطِ أنه قال لعمرِو بنِ عَبْسةَ: حدِّثْنا حديثاً سمعتَه من رسولِ الله صلعم، قال: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((مَنْ أعتقَ رقبةً مؤمنةً كانت فداءَه من النَّار)) وفي روايةٍ لأبي داودَ عن عمرِو بنِ عبسةَ أيضاً: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((أيُّما رجلٍ مسلمٍ أعتَقَ رجلاً مُسلِماً، فإنَّ الله جاعلٌ وِقاءَ كلِّ عظمٍ من عظامِهِ عَظْماً من عِظامِ محرِّرِه من النار، وأيُّما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقَتِ امرأةً مسلمةً، فإنَّ اللهَ ╡ جاعلٌ وِقاءَ كلِّ عظمٍ من عِظامِها عَظْماً من عِظَامِ محرِّرِها من النار)) ومنها ما أخرجَه أحمدُ عن عُقبةَ بنِ عامرٍ أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((مَنْ أعتقَ رقَبةً مؤمنةً فهي فِكاكُه من النَّار)).
          تنبيه: استشكلَ ابنُ العربيِّ قولَه: ((حتى فَرجِه بفَرجِه)) لأنَّ الفَرْجَ لا يتعلَّقُ به ذنبٌ يوجبُ له النَّارَ إلا الزنا، فإنْ حُمِلَ على ما يتعاطَاهُ من الصَّغائرِ كالمُفاخَذةِ لم يُشكِلْ عَتقُه من النار بالعَتقِ، وإلا فالزِّنا كبيرةٌ لا تُكفَّرُ إلا بالتوبة، ثم قال: فيحتمِلُ أن يكونَ المرادُ أنَّ العَتقَ يرجِّحُ عند الموازنة، بحيثُ يكونُ مرجِّحاً لحسَناتِ المعتِقِ تَرجيحاً يوازي سيِّئةَ الزنا، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ولا اختصاصَ لذلك بالفَرْجِ، بل يأتي في غيرِه من الأعضاء ما آثارُه فيه، كاليدِ في الغَصْبِ مثلاً، انتهى.
          وأقول: يؤيِّدُ التعميمَ ما في ((العمدة)) كالتَّوضيحِ من روايةِ أبي الفضْلِ الجَوزيِّ: ((حتى إنَّه لَيُعتِقُ اليدَ باليد، والرِّجلَ بالرِّجلَ، والفَمَ بالفَمِ)) انتهى.
          لكنْ قد يُقال: تخصيصُ الفَرْجِ بالفَرجِ في كثيرٍ من الأحاديثِ؛ لأنَّ معصيتَه شنيعةٌ شَرْعاً وعُرْفاً، فتدبَّر.
          وفي قوله: ((أعتَقَ اللهُ بكلِّ عُضوٍ منه عُضواً منه)) إشارةٌ إلى أنَّه لا ينبغِي أن يكونَ في الرَّقَبةِ نقصٌ، ليحصُلَ الاستيعابُ، وقال الخطَّابيُّ: يُستحَبُّ عند بعضِ العلماء أن لا يكونَ العبدُ المعتَقُ ناقِصَ العُضوِ بالعَوَرِ أو الشَّلَلِ أو نحوِهما، بل يكونُ سليماً ليكونَ مُعتِقُه قد نالَ الموعودَ في عَتقِ أعضَائهِ كلِّها من النار بإعتاقِه إياه من الرِّقِّ في الدُّنيا، قال: وربَّما كان نقصانُ الأعضَاءِ زيادةً في الثمنِ كالخَصيِّ مثلاً؛ لأنه يُنتفَعُ به في حِفْظِ الحريمِ ما لا يُنتفَعُ بغيرِه، انتهى.
          ومطابقةُ الحديثِ للترجمةِ ظاهرةٌ، وفيه _كما في ((الفتح))_ فضلُ العتقِ، وأنَّ عتقَ الذكرِ أفضلُ من عَتقِ الأنثى، وهو الصَّحيحُ _كما في ((التوضيح))_ خِلافاً لمَنْ فضَّلَ عتقَ الأنثى مُحتجَّاً بأنَّ عَتقَها يستدعي صيرورةَ ولدِها حُرَّاً، سواءٌ تزوَّجَها حرٌّ أو عبدٌ، بخلاف / الذَّكَرِ، وعُورِضَ الفضلُ بأنَّ عَتْقَ الأنثى غالباً يستلزمُ ضياعَها، وبأنَّ في عَتقِ الذَّكَرِ من المعاني العامَّةِ ما ليس في عَتقِ الأنثى، كصلاحيَّتِه للقضاء وغيرِه مما يصلُحُ للذُّكورِ دون الإناث، وقال في ((الهداية)) للحنفيَّة: واستحبَّ بعضُ العلماء أنْ يُعتِقَ الذَّكُرَ الذَّكَرَ، والأُنثى مثلَها؛ لتتحقَّقَ المقابَلةُ، فافهم.
          (قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ) أي: المذكورُ آنفاً بالإسناد السابق، فهو موصولٌ كما في ((الفتح)) وغيرِه (فَانْطَلَقْتُ به) أي: بالحديثِ، وسقطَ: <به> لغير أبي ذرٍّ (إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) ولأبي ذرٍّ: <ابنِ الحُسَينِ> ولمسلمٍ: ((فانطلقْتُ حين سمعتُ الحديثَ من أبي هريرةَ، فذكرتُه لعليٍّ)) زادَ أحمدُ وأبو عَوانةَ عن سعيدٍ المذكورِ: ((فقال عليُّ بنُ الحُسين: أنتَ سمعْتَ هذا من أبي هريرةَ؟ فقال: نعم)).
          (فَعَمَدَ) بفتح الميم؛ أي: فقصَدَ (عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنٍ) وسقطت <ال> من بعضِ الأصُول (إِلَى عَبْدٍ لَهُ) اسمُه مُطرَّفٌ، كما عند أحمدَ في مُسنَدِه، وأبي عَوانةَ وأبي نُعَيمٍ في ((مُستخرجَيهِما)) على صحيحِ مسلم.
          (قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ) أي: في مقابلةِ العبدِ على أنْ يشتريَه (عَبْدُ اللَّهِ) بتكبير ((عبد)) فاعلُ ((أعطاه)).
          (ابْنُ جَعْفَرٍ) أي: ابنِ أبي طالبٍ، فعبدُ الله ابنُ عمِّ والدِ عليِّ بنِ الحسين، وكانتْ وفاتُه سنةَ ثمانين من الهجرة، وهو أولُ مَن وُلِدَ للمُهاجرين في الحبَشةِ، وكان آيةً في الكَرَم، ولذا كان يُسَمَّى: بحرَ الجودِ، وله صُحبةٌ ☺.
          وقوله: (عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ) مفعولٌ ثانٍ لـ((أعطاه)) (أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ) شكٌّ من الراوي، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الدينارَ إذ ذاك قيمتُه عشَرةُ دراهمَ، ورواه الإسماعيليُّ من رواية عاصمِ بنِ عليٍّ بلفظ: ((عشَرةَ آلافِ درهمٍ)) بغَير شَكٍّ.
          (فَأَعْتَقَهُ) أي: فأعتقَ عليُّ بنُ الحُسينِ عبدَه المذكورَ، ولم يَبعْه لعبدِ الله، وللإسماعيليِّ بدَلَ ((فأعتقَه)): ((فقال: اذهَبْ أنتَ حرٌّ لوجهِ الله)) فرضيَ اللهُ عن عليِّ بنِ حسينٍ ما أسخَاه، لا سيَّما فيما كانَ لله، حيثُ أعتَقَ العبدُ المذكورَ، ولم يَبِعْه لعبد الله، وحديثُ البابِ أخرجَه المصنِّفُ أيضاً في كفَّاراتِ الأيمان، وكذا مسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ في العتقِ.
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمةِ بشِقَّيها ظاهرةٌ؛ لأنَّ فيه العَتقَ وفضيلتِه الخاصَّةِ التي لا يسمَعُ بها موفَّقٌ يقدِرُ على العتقِ إلا ويفعَلُه؛ إذ هو مما يُنجِي به اللهُ تعالى من النار، ولذا يُسَنُّ الإكثارُ منه، كما جرى عليه أكابرُ الصَّحابةِ وغيرُهم.
          قال ابنُ حجرٍ المكِّيُّ في ((التحفة)): وأكثرُ مَن بلغَنا عنه ذلك عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ ☺، فإنه جاء عنه أنَّه أعتَقَ ثلاثينَ ألفَ نَسَمةً ☺، وجاء عن غيرِهِ أنَّه أعتقَ في يومٍ واحدٍ ثمانيةُ آلافِ عبدٍ، انتهى.
          وذكر الدَّمِيريُّ في ((شرح منهاج النووي)) وفي منظومتِهِ في الفقه المسمَّاةِ بـ: ((رموز الكنوز)) أنَّ النبيَّ صلعم أعتقَ ثلاثةً وستِّينَ نسَمةً، وسمَّاهم، وأنَّ الصِّدِّيقَ أعتقَ كثيراً، وأنَّ عثمانَ بنَ عفَّانَ أعتقَ وهو مُحاصَرٌ عِشرينَ عبداً، وأنَّ عائشةَ أعتقَتْ تسعاً وستِّينَ، وأنَّ ابنَ عمرَ بنِ الخَّطابِ أعتَقَ ألفاً، وأنَّ العبَّاسَ عمَّ النَّبيِّ أعتقَ سبعينَ عبداً، وأن ذا الكَلَاعِ الحِميَريَّ أعتَقَ في يومٍ واحدٍ ثمانيةَ آلافِ عبدٍ، وأنَّ حكيمَ بنَ حِزامٍ أعتقَ في عَرَفاتٍ مائةً مطوَّقين بالفضَّة، وأنَّ عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ أعتقَ ثلاثينَ ألفَ نَسَمةً، فرضيَ الله عنهم، انتهى.