الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل من أدب جاريته وعلمها

          ░14▒ (بابُ فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ) سقط لفظُ: <فضل> لأبي ذرٍّ والنسَفيِّ، و((أدَّبَ)) بتشديد الدال المهملة المفتوحة فموحدة، قال في ((القاموس)): الأَدَبُ _مُحرَّكةً_ الظَّرفُ وحُسنُ التَّناوُلِ، أَدُبَ _كحَسُنَ_ أدَباً، فهو أدِيبٌ، والجمعُ أُدَباءُ، وأدَّبَه: علَّمَه، فتَأَدَّبَ واستَأدَبَ، انتهى.
          وفي ((المصباح)): أدَّبتُه أدباً _من باب ضرب_ علَّمُته رِياضَ النفسِ ومَحاسِنَ الأخلاق، قال أبو زيدٍ الأنصاريُّ: الأدبُ يقعُ على كلِّ رياضةٍ محمودةٍ يتخرَّجُ بها الإنسانُ في فضيلةٍ من الفضائل، وقال الأزهريُّ نحوَه، فالأدبُ اسمٌ لذلك، والجمعُ: آدابٌ، مثلُ: سَببٍ وأسبابٍ، وأدَّبتُه تأديباً، مبالغةٌ وتكثيرٌ، ومنه قيل: أدَّبتُه تأديباً؛ إذا عاقبتَه على إساءتِه؛ لأنه سببٌ يدعو إلى الأدب، انتهى.
          (جَارِيَتَهُ) أي: مملوكتَه (وَعَلَّمَهَا) بتشديد اللام، وزاد النسَفيُّ: ((وأعتقها)) بعد: ((وعلَّمَها)).
          وأقول: على ما قدَّمْنا عن اللُّغةِ يكونُ عطفُ ((وعلَّمَها)) على ((أدَّبَ)) من عَطفِ المرادِفِ للتفسير، لأنَّه أظهرُ، فتأمَّلْ.
          تنبيه: وهذه الصورةُ إحدى الصُّور التي يؤتى العبدُ أجرَه فيها مرَّتَين، وقد أفردَها الحافظُ السُّيوطيُّ برسالةٍ، وحاصلُ ما فيها يَزيدُ على الثلاثين، ونظَمَها في آخرِ الرِّسالةِ، فقال:
وَجَمْعٌ أتَى فِيْمَا رَوَيْنَاهُ أنّهُمْ                     يُثَنَّى لَهُمْ أجْــرٌ حَـوَوْهُ محـقَّقاً
فَأزواجُ خيرِ الخلقِ أوَّلُهم ومَنْ                     على زوجِها أو للقريبِ تَصدَّقا
وقارٍ بجهدٍ ذو اجتهادٍ أصابَ                     والوضوءُ اثنتَين والكتابيُّ صدَّقَا
وعبدٌ أتى حقَّ الإلهِ وسَيِّدٌ                     وعابرٌ يَسري مع غنيٍّ له تُقى
ومَنْ أمَةً يَشْرِي فأدّبَ مُحسِنا                     ويَنـكِحُها من بعده حينَ أعتَقا
ومَن سنَّ خَيراً أو أعادَ صلاتَه                     كذاك جبانٌ إذ يُجاهدُ ذا شَقا
كذاك شَهيدٌ في البِحارِ ومَنْ أتَى                     له القتلُ من أهلِ الكتابِ فأُلحِقا
وطالبُ علمٍ مُدرِكٌ ثم مُسبِغٌ                     وَضُوءاً لَدى البردِ الشّديدِ محقِّقا
ومستمعٌ في خطبةٍ قَد دَنا ومَنْ                     بتَـأخِيرِ صَفٍّ أوَّل مسلمًا وقَا
وحَافظُ عَصرٍ معَ إمَامٍ مؤذِّنٍ                     ومَنْ كَانَ في وقْتِ الفَسَادِ موفَّقا
وعَاملُ خيرٍ مُخفيًا ثم إنْ بَدا                     يُرى فرِحَاً مُسْتَبشراً بالَّذِي ارتَقَى
ومُغْتسِلٌ من جُمْعةٍ عَن جنَابةٍ                     ومَنْ فيهِ حقًّا قَد غَــدا متَصَدِّقا
وماشٍ يُصلِّي جمعةً ثمَّ مَنْ أَتى                     بِذَا اليومِ خَيرًا مَا فضِعُفه مُطلَقاً
ومَنْ حَتفُهُ قَد جَاءَهُ مِن سِلَاحِهِ                     ونازِعُ نَعْلٍ إنْ لخيرٍ تَــسبَّقَا
وماشٍ لدَى تَشْييعِ ميْتٍ وغَاسلٍ                     يدًا بعدَ أكْلٍ والمجَاهدُ إذ فَقا
ومُشَيعٌ ميْتاً حيَاءً مِنَ أهْلِهِ                     ومُستَمِعُ القـُرآنِ فيمَا رَوى الثِّقَا
وفي مُصْحفٍ يَقرِئُ وقَارِئُه مُعرِبَا                     بتَفْهِيمِ معْنَاهُ الشَّرِيفِ مُحقِّقَا
          انتهى.