الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون

          ░15▒ (باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ) وهذا وصلَه المؤلِّفُ في ((الأدب المفرد)) بالمعنى من حديث أبي ذرٍّ، ومن حديث جابرٍ وصحابيٍّ لم يُسَمَّ، وقال في ((الفتح)): لفظُ هذه الترجمة أورَدَ المصنِّفُ معناه من حديث أبي ذرٍّ، ورويناه في كتاب الإيمانِ لابنِ مندَه بلفظ: ((إنهم إخوانُكُم، فمَن لاءمَكم منهم فأطعِمُوهم ممَّا تأكلونَ، واكسُوهُم ممَّا تكتَسون)) وأخرجه أبو داودَ عن أبي ذرٍّ بلفظ: ((مَنْ لاءمَكم من مملوكيكُم فأطعِموهم مما تأكلون، واكسُوهم مما تلبَسون)).
          وروى البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) من طريقِ سلَّامِ بنِ عمروٍ، عن رجلٍ من الصَّحابةِ مرفوعاً، قال: ((أَرِقَّاؤكم إخوانُكم...)) الحديثَ، ومن حديثِ جابرٍ: ((كان النبيُّ صلعم يوصِي بالمملوكِينَ خيراً، ويقول: أَطعِموهُم ممَّا تأكلون)) ومن حديثِ أبي اليَسَر _بفتح التحتانية والمهملة_ واسمُه: كعبُ بنِ عمرٍو الأنصاريُّ رفعَه: ((أَطعِموهم مما تَطعَمون، واكسُوهم مما تلبَسون)) وفيه قصَّةٌ، وأخرجَه مسلمٌ في آخرِ كتابِه في أثناءِ حديثٍ طويل.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) وفي بعض الأصُول: <وقولِ اللهِ تعالى> وفي بعضٍ آخرَ: <وقولِه ╡> وهو مجرورٌ عَطفاً على قولِ النَّبيِّ، ولو رُفِعَ بالعطفِ على ((باب)) أو بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ يُقدَّرُ بنحو: ممَّا يتعلَّقُ بذلك لم يمتنِعْ، ثم رأيتُه في نسخةٍ معتمَدةٍ.
          ({وَاعْبُدُوا اللَّهَ}) ولعلَّ هذه الجملةَ مستأنَفةٌ، أو معطوفةٌ على مقدَّرٍ، والآيةُ في سورةِ النساءِ، وهي ثابتةٌ كلُّها في روايةِ كَريمةَ، وثبتَتْ لأبي ذرٍّ إلى قوله: (({وَالْمَسَاكِينُ})) ثم قال: <إلى قوله: {مُخْتَالاً فَخُوراً}> ({وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}) عطفٌ على: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} عطفُ نهيٍ على أمرٍ، و{شَيْئاً} صفةٌ لمقدَّرٍ؛ أي: إشراكاً شيئاً ما ولو كان قليلاً، وقال البَيضاويُّ: {شَيْئاً} صنماً أو غيرَه، أو شيئاً من الإشراك جليَّاً أو خفيًّا ({وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}) الظرفُ متعلِّقٌ بمقدَّرٍ، و{إِحْسَاناً} مفعولُه؛ أي: وأَحسِنُوا بالوالدَين إحسَاناً؛ لأنَّهما سببٌ لوجودِ الولدِ، ولتربيتِهما له صغيراً.
          ({وَبِذِي الْقُرْبَى}) عطفٌ على: {بِالْوَالِدَيْنِ} و{ذِي} بمعنى: صاحبٍ، و{الْقُرْبَى} بمعنى: القَرابةِ ({وَالْيَتَامَى}) جمعُ: يتيمٍ، وهو من الآدميِّينَ صغيرٌ لا أبَ له ({وَالْمَسَاكِينِ}) جمعُ: مسكينٍ، وهو أحسَنُ حالاً من الفقيرِ عند الشَّافعيةِ، وعكَسَ الحنفيَّةُ، وهذا عند اجتماعِهما، فإنْ أُفرِدَ أحدُهما أُريدَ به ما يشمَلُ الآخرَ، كما هنا ({وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}) قال البيضاويُّ: أي: الذي قرُبَ جِوارُه، / وقيل: الذي له مع الجِوارِ قُربٌ واتِّصالٌ بنسَبٍ أو دِينٍ، قال: وقُرئَ بالنَّصبِ على الاختصاص تعظيماً لحِفظِه ({وَالْجَارِ الْجُنُبِ}) قال البيضاويُّ: أي البعيدُ، أو الذي لا قرابةَ له، وعنه عليه الصَّلاة والسَّلام: ((الجيرانُ ثلاثةٌ: فجَارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ: حقُّ الجِوارِ، وحقُّ القَرابةِ، وحقُّ الإسلام، وجارٌ له حقَّان: حقُّ الجوارِ، وحقُّ الإسلام، وجارٍ له حقُّ واحدٌ: حقُّ الجِوارِ؛ وهو المشرِكُ من أهلِ الكتاب)) انتهى.
          وأقول: هذا الحديثُ رواه البزَّارُ وأبو الشيخُ في ((الثوابِ))، وأبو نُعيمٍ في ((الحلية)) عن جابرٍ ☺ بلفظ: ((الجيرانُ ثلاثةٌ: فجارٌ له حقٌّ واحدٌ، وهو أدنى الجيرانِ حقًّا، وجارٌ له حقَّانِ، وجارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ، فأمَّا الذي له حقُّ واحدٌ فجارٌ مُشرِكٌ لا رَحِمَ له، له حقُّ الجِوارِ، وأمَّا الذي له حقَّانِ فجارٌ مسلمٌ، له حقُّ الإسلام وحقُّ الجوارِ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوق: فجارٌ مسلمٌ ذو رَحِمٍ، له حقُّ الإسلامِ وحقُّ الجِوارِ وحقُّ الرَّحِمِ)).
          ({وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}) أي: الرَّفيقِ في أمرٍ حسنٍ، كتعلُّمٍ وتصرُّفٍ وصناعةٍ وسفرٍ؛ فإنَّه صحِبُكَ وحصَلَ بجَنبِك، وقيل: هو المرأةُ ({وَابْنِ السَّبِيلِ}) أي: المسافرِ أو الضَّيفِ ({وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}) بالجرِّ عطفاً على أحدِ المجروراتِ السَّابقة؛ أي: والعبيدِ والإماءِ الذين ملكَتْهم أيمانُكُم.
          قال العينيُّ: هذا وصيَّةٌ بالأرِقَّاء؛ لأنَّ الرقيقَ ضَعيفُ الجُثَّةِ، أسيرٌ في أيدِي الناسِ، ولهذا ثبتَ أنَّ رسولَ الله صلعم جعلَ يوصِي أمَّتَه في مرَضِ الموتِ، يقولُ: ((الصَّلاةَ الصَّلاةَ وما ملكَتْ أيمانُكُم))، فجعل عليه السَّلام يردِّدُها حتى ما يَفيضُ لها لسانُه، وكأنَّ هذا مرادُ البُخاريِّ بذكرِهِ هذه الآيةَ.
          وقال في ((الفتح)): والمرادُ بذكرِ هذه الآيةِ هنا قولُه تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فدخلوا فيمَن أمرَ بالإحسانِ إليهم لعَطفِهم عليهم، انتهى، فتأمَّل.
          ({إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً}) متكبِّراً يأنَفُ عن أقاربِهِ وجيرانِهِ وأصحابِهِ وخدمِهِ، ولا يلتفِتُ إليهم ({فَخُوراً}) يتفاخَرُ عليهم، يرى أنه خيرٌ منهم، وهو [في] نفسِهِ كبيرٌ، وهو عند الله حقيرٌ، وعند الناسِ بَغيضٌ.
          قال في ((القاموس)): الفَخرُ _ويحرَّكُ_ والفَخَارُ والفَخَارةُ _بفتحهما_ والفِخِّيرى _كخِلِّيفى_ ويُمدُّ: التمدُّحُ بالخصال، كالافتخار، فخَرَ _كمنَعَ_ فهو فاخرٌ وفَخورٌ، وتفاخَروا: فَخَرَ بعضُهم على بعضٍ، وفاخَره مُفاخَرةً وفَخاراً؛ عارَضَه بالفَخرِ، ففَخَرَه _كنصره_؛ غلَبَه، وفخَرَه علَيه _كمنع_ فضَّلَه عليه في الفضْلِ كأفخرهِ عليه، والفَخيرُ _كأمير_؛ الفاخرُ، والمغلوبُ والفخرُ والمفخرةُ _وتُضَمُّ الخاء_ ما فُخِرَ به، والفاخِرُ: الجيِّدُ من كلِّ شيءٍ، انتهى.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أي: البخاريُّ (ذِي الْقُرْبَى الْقَرِيبُ، وَالْجُنُبُ الْغَرِيبُ، الْجَارُ الْجُنُبُ؛ يَعْنِي: الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ) كذا ثبتَ الجميعُ في بعضِ الأصولِ، وسقطَ الجميعُ في بعضٍ آخرَ، وسقطَ من بعضِ النُّسَخ: <قال أبو عبد الله> فقط، ووقعَ في بعضِها: <ذو القربى> بالواو على عدمِ الحكايةِ للفظِ الآيةِ.
          وقال القسطلانيُّ: زادَ أبو ذرٍّ في روايتِهِ: <قال أبو عبد الله: {ذِي القُرْبَى}؛ أي: القريبُ، والجنُبُ الغريبُ>، قال: وفي غيرِ روايةِ أبي ذرٍّ في ((اليونينية)) وغيرِها: / <الجارُ الجنُبُ؛ يعني: الصَّاحبُ في السَّفر>، انتهى.
          وتفسير {ذِي الْقُرْبَى} بالقَريبِ مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ فيما رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طلحةَ، ولفظُه: يعني الذي بينَكَ وبينَه قَرابةٌ، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الَّذي ليس بينك وبينه قرابةٌ، وكذا رُويَ عن عكرِمةَ ومجاهدٍ ومَيمونِ بنِ مهرانَ والضَّحَّاكِ وزيدِ بنِ أسلمَ ومُقاتلِ بنِ حبَّانَ وقتادةَ.
          وقال أبو إسحاقَ عن نَوفِ البَكاليِّ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني: المسلمَ، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني: اليهوديَّ والنصرانيَّ، رواه ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتِمٍ، وقال عليٌّ وابنُ مسعودٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: المرأةِ، وقال مجاهدٌ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني: الرفيقَ في السفر، ونقلَ الثَّوريُّ عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ أنَّهما قالا: الصاحبُ بالجَنبِ المرأةُ، وقال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ وعكرِمةُ وقَتادةُ: هو الرفيقُ في السفر، وقال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: هو الرفيقُ الصالح، وقال زيدُ بنُ أسلمَ: هو جليسُكَ في الحضَرِ ورفيقُكَ في السَّفر، قاله في ((العمدة)).