الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أم الولد

          ░8▒ (باب أُمِّ الْوَلَدِ) قال شيخُ الإسلامِ: أي: بيانِ حُكمِها من أن إيلادِها من سيِّدِها من أشراطِ الساعة، وأمَّا عتقُها بالإيلادِ وجوازُ بيعِها فالجمهورُ على المَنعِ فيهما، انتهى.
          وقال في ((الفتح)) ما حاصِلُه: أي هل يُحكَمُ بعتقِها وعدمِ جوازِ بيعِها أم لا؟ ولم يعيِّنْه للاختلافِ فيه بين السَّلفِ، وإنِ استقرَّ الأمرُ فيه عند الخلَفِ على المنعِ من جَوازِ بيعِها، إلا عندَ شُذوذٍ منهم كما سيأتي تفصيلُه.
          (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺، ممَّا وصلَه المصنِّفُ بمعناه في الإيمان (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) أي: البعيدةِ في الجملةِ (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا) والمرادُ بـ((الأمَةِ)) أمُّ الولدِ، وهي مَنْ وضعَتْ من سيِّدِها ما يجبُ فيه غُرَّةٌ، وربُّها؛ أي: مالكُها، وأنَّثَه في الرِّوايات؛ إما لإرادةِ المرأةِ، أو باعتبار أنَّه نسَمةٌ، وذلك لأنَّ ولدَها من سيدِها بمنزلةِ سيدِها، باعتبارِ أنَّ مالَ الإنسانِ يصيرُ إلى ولدِه غالباً.
          وقال ابنُ التِّين: معناه: أن تكثُرَ السَّراري / في آخرِ الزَّمان، فيكونُ ابنُ الأمَةِ مَولاها، وقيل: هو أن يستطيلَ الولدُ على أمِّه ولا يبَرَّها، فكأنَّه ربُّها، انتهى.
          وفي الوجهِ الأولِ شيءٌ لمَنْ تأمَّلَ، وليسَ في هذا الحديثِ دليلٌ على جوازِ بيعِ أمَّهاتِ الأولاد، ولا على عدَمِه، خلافاً لبعضِهم، كما مرَّ في كتابِ الإيمان: قال النَّوويُّ: استدلَّ به إمامانِ جَليلان: أحدُهما على جوازِ بيعِها، والآخرُ على منعِهِ، فمَنْ قال بالجوازِ قال: ظاهرُ قولِهِ: ((ربَّها)) أنَّ المرادَ بربِّها مالكُها، وأما منِ استدَلَّ على عدَمِه قال: لا شكَّ أنَّ أولادَ الإماءِ كانوا موجُودينَ في عهدِ النبيِّ وأصحابِهِ كثيراً، فدلَّ على أنَّ المرادَ أمرٌ زائدٌ على ذلك، ليصِحَّ جَعلُه من أشراطِ السَّاعة، وهو أنَّ الجهلَ يغلِبُ في آخرِ الزمان، حتى تُباعَ أمَّهاتُ الأولادِ بكثرةٍ، يشتريها ولَدُها وهو لا يدري، فيكونُ إشارةً إلى تحريمِ بيعهِنَّ.
          قال في ((الفتح)): ولا يخفَى تكلُّفُ الاستدلالِ من الطرفَين، وقال النوويُّ: وذلك عجَبٌ منهما، فإنَّه ليس كلُّ ما أخبرَ النبيُّ عليه السلامُ بأنَّه من أشراطِ السَّاعةِ يكونُ محرَّماً، كتطاوُلِ الرُّعاءِ في البُنيانِ، وفُشوِّ المالِ، وكونُ الخمسين امرأةً لها قَيِّمٌ واحدٌ، فإنها ليستْ بحرامٍ، وإنما هي علاماتٌ، وهي ما تكونُ بالخيرِ وتكونُ بالشَّرِّ، وتقدَّمَ الكلامُ على الحديثِ مبسوطاً في كتاب الإيمان، وفي أوائلِ البيوعِ، وسيأتي في الفرائضِ أيضاً، فراجِعْه.
          ووجهُ مطابقةِ الحديثِ للتَّرجمةِ _كما قالَ ابنُ المنيِّرِ_ من جهةِ أنَّ قولَه: ((تَلدَ الأمَةُ ربَّها)) يدُلُّ على إثباتِ حريةِ أمِّ الولد، وأنها لا تُباعُ، وهما المرادانِ للبخاريِّ من الترجمةِ.
          والحديثُ يفيدُ أنَّ ولادةَ الأمَّةِ ربَّها من أشراطِ السَّاعةِ؛ لتقبيحِهِ ذلك وعَدِّه من الفِتنِ باعتبارِ أنَّها مُحترَمةٌ، ويعاملُها ولدها معاملةَ السَّيدِ لها، فتأمَّلْ.
          ووجَّهَها العَينيُّ في الحديثِ الآتي بأنَّ الترجمةَ في أمِّ الولدِ مُطلَقاً من غير تعرُّضٍ للحُكمِ، فتحصُلُ المطابقةُ من هذه الحيثيَّة.