الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب عسب الفحل

          ░21▒ (بابُ عَسْبِ الْفَحْلِ) بإضافة: ((بابُ)) و((عَسْبِ)) بفتح العين وسكون السين المهملتين فموحدة، وسيأتي معناه، و((الفحل)) بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة؛ الذَّكرُ من كلِّ حيوانٍ؛ أي: بيان حُكمِ عَسْبِه، ويقال له: العَسيبُ أيضاً _بزيادة مثناة تحتية_ وترجمَ الترمذيُّ بقوله: بابُ ما جاءَ في كَراهيةِ عَسبِ الفحلِ، ومرادُه به: كراؤه، بخلافِ البخاريِّ؛ فإنَّ كلامَه يحتملُه ويحتملُ: ماءهُ، ويحتملُ: ضِرابَه، ولذا لم يجزمِ المصنِّفُ بالحكم.
          وقد اختلف أهلُ اللغةِ فيه، فقيل: هو ضِرابُه، وقيل: أجرتُه التي تؤخَذُ عليه، وقيل: ماءُ الفحلِ، وبذلك صرَّحَ الجوهريُّ وغيره.
          وقال في ((المحكم)): العَسْبُ: ضِرابُ الفحلِ، ثم قال: عسَبَ الرجلَ يعسِبُه عَسْباً: أعطاه، وقال أبو عُبيدٍ: العَسْبُ في الحديث: الكِراءُ، والأصل فيه: الضِّرابُ.
          قال العراقيُّ: ويدلُّ على ما قاله أبو عُبيدٍ روايةُ الشافعيِّ: ((نهى عن ثمنِ عَسْبِ الفَحْلِ)) وعلى هذا جرى البخاريُّ أيضاً، وقال الرافعيُّ: المشهورُ عند الفقهاءِ أنَّ العسْبَ: الضِّرابُ، فإنَّ المنهيَّ عنه كراؤه، لا ضِرابُه، ولا ماؤه.
          وقال صاحبُ ((الأفعال)): أعسَبَ الرَّجلَ عَسْباً: اكترى منه فحلاً يُنزيه.
          قال في ((الفتح)) بعد حكايةِ الأقوال: وعلى كلِّ تقديرٍ: فبيعُه وإجارتُه حرامٌ؛ لأنَّه غير متقوَّمٍ ولا معلومٍ ولا مقدورٍ على تسليمِه، وفي وجهٍ للشَّافعيةِ والحنابلةِ: تجوزُ الإجارةُ مدَّةً معلومةً، قال: وهو قولُ الحسَنِ وابن سيرينَ، وروايةٌ عن مالكٍ، كما يجوزُ الاستئجارُ لتلقيحِ النخلِ.
          وتُعقِّبَ بالفرقِ؛ لأنَّ المقصودَ هنا ماءُ الفحلِ، وصاحبُه عاجزٌ عن تسليمِه، بخلافِ التلقيحِ، فالمنهيُّ عنه: الشِّراءُ والكِراءُ؛ لما فيه من الغَررِ، وأمَّا إعارتُه لذلك، فلا خلافَ في جوازِها، ويجوزُ أن يعطيَ مالكَ الفحلِ هديَّةً بغير شرطٍ، خلافاً لأحمدَ وبعضِ الصحابةِ والتابعين؛ لما رواه الترمذيُّ عن أنسٍ _وقال: حسنٌ غريبٌ_: ((أنَّ رجلاً من كِلابٍ سألَ رسولَ الله عن عَسْبِ الفحلِ، فنهاه، فقال: يا رسولَ الله إنَّا نُطرِقُ الفحلَ فنُكرَمُ، فرخَّصَ في الكرامة)).
          وروى ابنُ حبَّانَ في ((صحيحه)) عن أبي كَبْشةَ مرفوعاً: ((مَن أطرَقَ فرَساً فأَعقَبَ كان له كأجرِ سبعينَ فرَساً حمَلَ عليها في سبيلِ الله، وإن لم تُعقِبْ كان له كأجرِ فرَسٍ حمَلَ عليها في سبيلِ الله)).