الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام

          ░4▒ (باب: إِذَا اسْتَأْجَرَ) أي: الشَّخصُ (أَجِيراً لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلاً بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ _أو بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ_ جَازَ) أي: الاستئجارُ، جواب: ((إذا)) (وَهُمَا) أي: الأجيرُ والمستأجرُ (عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي شَرَطَاهُ) أي: لا من كَونِ العملِ بعد ثلاثةٍ أو شهرٍ أو سنةٍ؛ أي: أو أسبوعٍ مثَلاً (إِذَا جَاءَ الأَجَلُ) أي: المدَّةُ المذكورةُ، وجوابُ: ((إذا)) هذه مقدَّرٌ بقولِه: ((فهما على شَرطِهما...)) إلخ، أو هي لمجرَّدِ الظرفيَّة.
          تنبيه: لفظُ: ((بعد)) متعلِّقٌ بقوله: ((ليعمَلَ)) لا بـ((استأجَرَ)) فإنَّ الاستئجارَ في الحالِ، والعمَلَ بعد ثلاثةِ أيامٍ مثلاً، وهذا مرادُ المصنِّفِ؛ لوقوعِ الخلافِ فيه، كما ستعرِفُه، أما لو كانت / عند الإجارةِ بعد ثلاثة أيامٍ مثَلاً، والعملُ متَّصلٌ بذلك، فلا خلافَ في جوازِه.
          قال شيخُ الإسلام: ما ذكره البُخاريُّ من جوازِ ذلك هو مذهبُ بعض الأئمَّة، ومذهبُ الشافعيِّ: بطلانُه في إجارة العين دون إجارةِ الذِّمة؛ لأنَّ المنفعةَ حينئذٍ غيرُ مقدورةِ التسليمِ حالاً، فأشبَهَ بيعَ العين على أن يسلِّمَها غداً، نعم لو أجَّرَ السنةَ الثانيةَ لمستأجرِ الأولى قبلَ انقضائها جازَ لاتِّصالِ المدَّتَين مع اتِّحادِ المستأجرِ، فهو كما لو أجَّرَهما دفعةً واحدةً، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّنِ كابن بطَّالٍ: وفي حديثِ الباب: إباحةُ استئجارِ الرجلِ على أن يدخُلَ في العملِ بعد أيامٍ معلومةٍ، فيصِحُّ عقدُ الإجارة قبلَ العمل، وقياسُه: أن يستأجِرَ منزِلاً معلوماً مدَّةً معلومةً قبل مجيءِ السَّنةِ بأيامٍ، وأجازه مالكٌ وأصحابُه، فقالوا: يجوزُ استئجارُ الأجيرِ على أن يعمَلَ بعد يومٍ أو يومَين أو ما قرُبَ من ذلك إذا أنقدَه الأجرةَ.
          واختلفوا فيما إذا استأجرَه ليعمَلَ بعد شهرٍ مثلاً، ولم يُنقِدْه الأجرةَ، فأجازهُ مالك وابنُ القاسم، وقال أشهبُ: لا يجوزُ، ووجهُه أنه لا يدري أيَعيشُ المستأجرُ أو الدابَّةُ؟ واتَّفقا على أنه لا يجوزُ ذلك في البيع، وهذا عندهُم في الأجيرِ المعيَّنِ والراحلةِ المعيَّنة.
          وأمَّا إذا كان كِراءً مضموناً، فيجوزُ فيه ضرب الأجلِ البعيدِ، وتقديمُ رأسِ المال، ولا يجوزُ أن يتأخَّرَ رأسُ المالِ إلا اليومَين والثلاثةَ؛ لأنَّه إذا تأخَّرَ كان من بيع الدَّينِ بالدَّين، وتفسيرُ الكِراءِ المضمون: أن يستأجِرَه على حمولةٍ بعينِها على دابَّةٍ غير معيَّنةٍ، والإجارةُ المضمونةُ: أن يستأجِرَه على بناءِ بيتٍ لا يشترِطُ عليه عمَلَ يدِه، ويصِفُ له طولَه وعرضَه وجميعَ آلتِه، على أنَّ المؤنةَ فيه كلَّها على العاملِ مضموناً عليه حتى يتِمَّه، فإن ماتَ قبل تمامِه كان ذلك في مالِه، ولا يضُرُّه بُعدُ الأجلِ، انتهى.
          وفي القسطلاني: قال الحنفيَّةُ: إذا قال في شعبانَ مثَلاً: أجَّرتُك داري في أولِ يومٍ من رمضانَ، جاز مُطلقاً؛ لأنَّ العقدَ يتحدَّدُ بحدوثِ المنافعِ، وهو مذهبُ المالكيَّةِ، انتهى فاعرِفْه.