الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أجر السمسرة

          ░14▒ (باب أَجْرِ) أي: بيان حُكمِ أجرةِ (السَّمْسَرَةِ) بفتح السينين المهملتين بينهما ميم ساكنة؛ أي: الدِّلالةِ، فهي: مصدرُ: سَمسَرَ، كما في ((المغرب)) وقال ابنُ الملقِّن: وكان حمَّادٌ يكرَهُ أجرَ السِّمسارِ إلا بأجرٍ معلومٍ، وكان سفيانُ يكرَهُها، انتهى.
          (وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ) أي: محمدٌ (وَعَطَاءٌ) أي: ابنُ أبي رَباحٍ (وَإِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخَعيُّ (وَالْحَسَنُ) أي: البَصريُّ (بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْساً) أي: الدَّلَّالِ.
          قال في ((القاموس)): السِّمسارُ _بالكسرِ_: المتوسِّطُ بين البائعِ والمشترِي، والجمعُ: سَماسِرةٌ، ومالكُ الشيءِ وقيِّمُه والسفيرُ بين المحبِّين، وسِمسارُ الأرضِ: العالمُ بها، والمصدرُ: السَّمسرةُ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وكأن المصنِّفَ أشار إلى الردِّ على من كرِهَها، ونقلَه ابنُ المنذِرِ عن الكوفيِّين، انتهى.
          وردَّه العينيُّ فقال: لم يقصدِ البخاريُّ بهذا الردَّ على أحدٍ... إلخ.
          وفيه أنَّ هذا هو الغالبُ، فتُكرَهُ السمسرةُ عندهم للنَّهي عنها في حديثِ: ((لا يبِعْ حاضِرٌ لبادٍ)) بناءً على تفسيره بالسَّمسرةِ، ولا تكرَهُ عند الجمهورِ، وحمَلوا حديثَ: ((لا يبِعْ حاضرٌ لبادٍ)) على غيرِ السَّمسَرةِ المذكورةِ، بل هي: أن يقولَ الحاضُر للبادي إذا قدِمَ بشيءٍ تعمُّ الحاجةُ إليه ليبيعَه بسعرِ يومِه: أَبقِه لأبيعَه لك بأغلى، كما مرَّ، فتدبَّر.
          تنبيه: التَّعليقُ المرويُّ عن ابنِ سيرينَ وإبراهيمَ: وصَلَه ابنُ أبي شيبةَ عنهما بلفظ: ((لا بأسَ بأجرِ السِّمسارِ إذا اشترى يداً بيدٍ))، وأمَّا المرويُّ عن عطاءٍ، فوصَلَه ابنُ أبي شيبةَ أيضاً بلفظِ: سُئلَ عطاءٌ عن السَّمسرةِ فقال: لا بأسَ بها، قاله في ((الفتح)) على الصوابِ، وفي باب: إنَّ الأعمال بالنيَّةِ في كتابِ الإيمان.
          (وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ) ☻ (لاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ) أي: المالكُ للسِّمسارِ (بِعْ) وفي بعض الأصول: <بِعْ لي> (هَذَا الثَّوْبَ) أي: مثَلاً (فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا) أي: على مائةٍ وخمسين دِرهَماً مثَلاً، وانظُرْ حكمةَ تَكرارِ: ((كذا)) مع أنه لا يُشترَطُ.
          وقوله: (فَهُوَ لَكَ) خبرُ: ((فما زاد)) وهذا التعليقُ وصلَه ابنُ أبي شيبةَ عنه بنحوه.
          قال في ((الفتح)): وهذه أجرةُ سمسَرةٍ أيضاً، لكنها مجهولةٌ، ولذلك لم يجزْها الجمهورُ، قالوا: إن باع له على ذلك فله أجرُ مثلِه، وحمَلَ بعضُهم إجازةَ ابن عبَّاسٍ لها على أنه أجراه مَجرى المُقارِضِ.
          وبذلك أجابَ أحمدُ وإسحاقُ، ونقلَ ابنُ التِّينِ أنَّ بعضَهم شرَطَ في جوازِه أن يعلمَ النَّاسُ ذلك الوقت أنَّ ثمن السِّلعة يساوي أكثرَ ممَّا سمَّى له، وتعقَّبَه بأنَّ الجهلَ بمقدارِ الأجرةِ باقٍ، انتهى.
          لكن قال ابنُ الملقِّن تبعاً لابنِ بطَّالٍ: وقد اختلفَ العلماءُ في أجرةِ السِّمسار، فأجازَها غيرُ من ذكرَهم البُخاريُّ، منهم: الأربعةُ، قال مالكٌ: يجوزُ أن يستأجِرَه على بيعِ سِلعتِه إذا ضربَ لذلك أجَلاً، وكذا إذا قال له: بِعْ هذا الثوبَ ولك درهَمٌ، وكذا إنْ جعَلَ له في كلِّ مائةِ دينارٍ شيئاً.
          وقال أحمدُ: لا بأسَ أن يعطيَه من الألفِ شيئاً معلوماً، وقال أبو حنيفةَ: إن دفَعَ إليه ألفَ درهمٍ يشتري بها بَزًّا بأجرةِ عشْرِ دراهمَ، فهو فاسدٌ، وله أجرةُ المثلِ، ولا يجاوز ما سمَّى وبهذا قال الشافعيُّ، انتهى ملخَّصاً مع زيادةٍ.
          (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ) أي: محمدٌ مما وصله ابنُ أبي شيبةَ أيضاً (إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا) وفي بعض الأصول ذكَرَ: ((كذا)) مرتَين كالسابقِ (فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهْوَ لَكَ) ووقع في بعضِ الأصولِ: <فلك> بإسقاطِ: ((هو))، زاد الأبَوان لفظَ: <ذلك> عقِبَ: ((ربح)).
          وقوله: (أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) عطفٌ على: ((فهو لك))، وقوله: (فَلاَ بَأْسَ بِهِ) جوابُ: ((إذا)) فافهم.
          قال في ((الفتح)): وهذا أشبهُ بصُورةِ المقارِضِ من السِّمسار.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) أي: الجائزةِ شرعاً، ووقعَ في بعض نُسخِ البخاريِّ، / كما قاله العينيُّ بلفظِ: <المسلمون على شُروطِهم> بلفظ: <على> بدَلَ: ((عند))، وعليها شرحَ في ((الفتح)) وقال ابنُ التِّين: وقولُ ابن عبَّاسٍ وابنِ سيرينَ لم يُتابَعا عليه، والدليلُ عليهما قولُه عليه السَّلامُ: ((مَن استأجَرَ أجيراً فليُعلِمْه أجرَه)).
          وتعقَّبَه ابنُ الملقِّن فقال: تُوبِعا كما سلَفَ، والحديثُ أخرجه البَيهقيُّ، انتهى.
          وهذا التعليقُ من البُخاريِّ لا من بقيَّةِ كلامِ ابن سيرينَ كما ظنَّه ابنُ التِّين وشرحَ على ذلك، فوَهَمَ فيه كما قاله القُطبُ الحلَبيُّ وغيرُه، وقد وصَلَه أحمدُ وأبو داودَ عن أبي هريرةَ رفعَه بلفظ البُخاريِّ، وكذا الدَّارَقُطنيُّ والحاكمُ عن عائشةَ مثله لكن بزيادةِ: ((ما وافقَ الحقَّ))، و((ما)): مصدريَّةٌ ظرفيةٌ.
          وكذا ابنُ أبي شيبة عن عطاءٍ بلفظِ: بلغَنا أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((المؤمنون عند شروطِهم)) وأخرجه إسحاقُ في ((مسنده)) من طريقِ كَثيرِ بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه مرفوعاً بلفظِ: ((المسلمون على شروطِهم، إلا شرطاً حرَّمَ حلالاً، أو حلَّلَ حراماً)) وكثيرُ بنُ عبدِ الله: ضعيفٌ عند الأكثرين، لكن البُخاريُّ ومَن تبعَه كالتِّرمذيِّ وابنِ خُزيمةَ قَوَّوا أمرَه، هذا ما في الشُّراح، وزاد في ((الفتح)) قولَه: هذا أحدُ الأحاديثِ التي يوصِلُها المصنِّفُ في مكانٍ آخرَ، انتهى.