الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب في الإجارة استئجار الرجل الصالح

          ░1▒ (بابٌ / في الإجارة اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ) وسقطَ لأبي ذرٍّ: <في الإجارةِ> فـ((باب)) مُضافٌ لـ((استئجار)) وعلى ثُبوتِها؛ فقولُه: ((استئجارِ)) بالجرِّ، بدَلٌ من: ((الإجارةِ)) قاله شيخُ الإسلامِ، ويجوزُ رفعُه خبراً لمحذوفٍ، ونصبُه بمحذوفٍ؛ نحوُ: أعني، قال ابنُ المنيِّر: وغرَضُه من هذه التَّرجمةِ قطعُ وَهْمِ مَن لعلَّه يتوهَّمُ أنَّه لا ينبَغي استئجارُ الصَّالحين في الأعمالِ والخَدَمِ؛ لأنَّ ذلك امتِهانٌ لهم. انتهى فتدبَّر.
          وفي بعض النُّسخِ على ما في القسطلانيِّ: <كِتابُ الإجارةِ في الإجارةِ استئجارِ الرَّجلِ الصالحِ>، فتأمَّل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بجرِّ: ((قولِ)) عَطفاً على: ((الإجارةِ)) وبالرفعِ على الاستئناف، ولأبي ذرٍّ: <وقالَ الله تعالى> ({إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}) أشارَ المصنِّفُ بالتَّرجمةِ والآيةِ المذكورةِ في سورةِ القصصِ إلى قصَّةِ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام مع ابنةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ، قال البيضاويُّ: قيل: كانتِ الصُّغرى منهما، وقيل: الكُبرى، واسمُها: صَفُورا، أو صَفيرا، وهي التي تزوَّجَها موسى عليه السَّلامُ.
          وقال البغَويُّ: اسمُ ابنتَي شُعيبٍ: صَفُّورةُ وليا في قولِ شُعيبٍ الجَبائيِّ، وقال ابنُ إسحاقَ: صَفُّورةُ وشَرْقا، وقال غيرُهما: الكُبرى: صَفْراءُ، والصُّغرى: صُفَيراءُ، قيل: زوَّجَه الكُبرى، وذهَبَ أكثرُهم إلى أنه زوَّجَه الصُّغرى منهما، واسمُها: صفُّورةُ.
          وقال في ((الفتح)): روى ابنُ جريرٍ من طريقِ شُعيبٍ الجَبائيِّ _بفتح الجيم والموحدة بعدها همزة مقصوراً_ أنَّ اسمَ المرأةِ التي تزوَّجَها موسى: صَفُّورة واسمُ أختِها: ليا، ورُوي من طريقِ ابنِ إسحاقَ أنه قال: اسمُ أختِها شَرْقا، وقيل: لياءُ، وقال غَيرُه: اسمُهما: صَفُورا وعَبْرا، وأنَّهما كانَتا توأماً، وذكرَ ابنُ جَريرٍ اختِلافاً في أنَّ أباهما شُعيبٌ النَّبيُّ أو ابنُ أخيه أو آخَرُ اسمُه: يَثْرونُ أو يَثْرى، أقوالٌ لم يرجِّحْ منها شيئاً، انتهى.
          هذا تعليلٌ شائعٌ يجري مَجْرى الدَّليلِ على أنه أمينٌ حقيقٌ بالاستئجار، وللمُبالغةِ فيه جَعلَ: {خيرَ} اسماً، قال: وذكرَ الفعلَ بلفظِ الماضي للدَّلالةِ على أنه أمينٌ مُجرَّبٌ معروفٌ، رويَ أنَّ شُعيباً قال لها: وما أعلمَكِ بقوَّتِه وأمانتِه؟ فذكرَتْ إقلالَ الحجَرِ، وأنَّه صوَّبَ رأسَه حين بلغَتْه رسالتُه، وأمَرَها بالمشيِ خلفَه، انتهى.
          وعبارةُ ((الكشَّاف)): فإنْ قلتَ: كيف جعَلَ: {خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ} اسماً لـ(إن) و{الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} خبَراً لها؟ قلتُ: هو مثلُ قوله:
ألا إنَّ خيرَ النَّاسِ حيًّا وميِّتاً                     أسِيرُ ثَقيفٍ عندَهُم في السَّلاسِلِ.
          في أنَّ العِنايةَ هي سببُ التقديمِ، وقد صدقَتْ حتى جعلَ لها ما هو أحقُّ بأن يكونَ خبراً اسماً، ثم قال: وعنِ ابنِ مسعودٍ: أفرَسُ النَّاسِ ثلاثٌ: بنتُ شُعيبٍ، وصاحبُ يوسُفَ في قوله: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} وأبو بكرٍ في عُمرَ، انتهت.
          وقال ابنُ الملقِّن والعينيُّ وغيرُهما: ذكَرَ مُقاتِلٌ وشُريحٌ وقتادةُ وأبو مالكٍ وابنُ إسحاقَ وكثيرون أنَّ هذا قولُ صَفورا ابنةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ، وقيل: ابنةُ أخيه، وهي التي تزوَّجَها موسى عليه السَّلامُ، وكانت توأمةَ عَبْرا، لكنها وُلدَت بعد صَفُورا بنصفِ يومٍ، وكان بين المكان الذي سقى فيه الغنَمَ وبين شُعيبٍ ثلاثةُ أميالٍ، وكان موسى عليه السَّلامُ حين قتَلَ القِبطيَّ بمصرَ، وأمرَ فِرعونُ بقَتلِ موسى، جاءَه رجلٌ من شيعتِه يقالُ له: خِربيلُ، وقيل: شَمْعونُ، وقيل: سَمْعانُ، كان آمَنَ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وصدَّقَ بموسى، وكان ابنَ عمِّ فرعَونَ، وقال لموسى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] فهداه / إلى مَديَنَ، وبينها وبين مصرَ ثمانيةُ أيامٍ، وقيل: عشَرةٌ، فخرَجَ موسى مُستَخفياً، وكان يأكلُ من ورَقِ الشَّجرِ، ويَمشي حافياً، حتى ورَدَ ماءَ مديَنَ، ونزَلَ عند البئرِ التي يستَقي منها النَّاسُ، فوجد هناك ابنتا شُعَيبٍ عليه الصَّلاة والسَّلام تمنَعانِ أغنامَهما عن اختلاطِها بأغنامِ النَّاسِ، فسألهما عن ذلك، فقالتَا: لا نَسقي حتى يفرُغَ النَّاس لضَعفِنا عن المزاحَمةِ، وأبونا شيخٌ كبيرٌ، فسقى لهما بعد أن وضعَ النَّاسُ الصَّخرةَ على فمِ البئرِ وذهبوا.
          وقال ابنُ إسحاقَ: إنَّ موسى عليه السَّلامُ زاحَمَ القَومَ ونحَّاهم عن رأسِ البئرِ، فسَقى غنمَهما، ويقال: إنَّه نزَعَ دَلواً واحداً، ودعا فيه بالبركةِ، فروى منه جميعُ غنمِهما، وقيل: إنَّ موسى اقتلَعَ صخرةً من رأسِ بئرٍ أخرى كانت بقُربِها لا يُطيقُ رفعَها إلا جماعةٌ، ثم تولَّى إلى الظِّلِّ، إلى آخرَ ما قصَّ اللهُ تعالى القصَّةَ، وبيَّنها أهلُ التفسيرِ، وكان شُعيبٌ عليه السَّلامُ غَيُوراً، فقال لها: من أين عرفتِ قوَّتَه وأمانتَه، فقالت: أمَّا قوَّتُه؛ فلأنَّه حمَلَ الحجَرَ الذي على فمِ البئرِ، وكان لا يقدِرُ أن يحمِلَه إلا عشَرةُ رِجالٍ، أو أربعون، أو مِائةٌ، أو جملةٌ من النَّاسِ، أو: لم أرَ رجلاً أقوى في السِّقاءِ منه، وأمَّا أمانتُه؛ فلأنَّه لمَّا مشى معي حين أرسلتَني إليه مشَيتُ بين يدَيه لأدُلَّه على الطريقِ، فقال لي: كوني خلفي ودُلِّيني على الطَّريقِ مَخافةَ أن ينظُرَ إليها.
          وفي روايةٍ: وأمَّا أمانتُه؛ فإنه نظَرَ إليَّ حينَ أقبَلتُ إليه، فلمَّا علِمَ أنِّي امرأةٌ صَوبَ رأسِه فلم يرفَعْه، ولم ينظُرْ إليَّ حين بلَّغتُه رسالتَك، وقيل: إنها مشَتْ أمامَه لمَّا دعَتْه، ومشى خلفَها، فكانت الرِّيحُ تضرِبُ ثوبَها، فيصِفُ رِدْفَها، فكرِهَ موسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي ودُلِّيني على الطريقِ إن أخطأتُ، ففعلَتْ كذلك، وفي روايةٍ: ولمَّا جئتُ معه تقدَّمْتُ أمامَه، فقال: كوني من ورائي، فإذا اختلفَتِ الطريقُ فاحذِفي لي بحَصاةٍ أعلَمُ بها كيف الطريقُ لأهتديَ إليه، فلما دخَلَ على شُعيبٍ إذا هو بالعَشاءِ تهيَّأَ، فقال له شُعيبٌ: اجلِسْ يا شابُّ فتعَشَّ، فقال موسى: أعوذُ بالله، فقال شُعيبٌ: ولمَ ذاك؟ ألستَ بجائعٍ؟ فقال: بلى، ولكن أخافُ أن يكونَ هذا عِوَضاً لِما سقَيتُ لهما، وأنا من أهلِ بيتٍ لا نطلُبُ على عملِ الآخِرةِ عِوَضاً من الدُّنيا، فقال له شُعيبٌ: لا واللهِ يا شابُّ؛ ولكنها عادَتي وعادةُ آبائي؛ نُقري الضَّيفَ، ونُطعِمُ الطَّعامَ، فجلَسَ موسى وأكَلَ، وجَرى بينهما ما قصَّ اللهُ تعالى، والمشهورُ عند الجمهورِ أنَّ شُعيباً هذا هو النَّبيُّ عليه السَّلامُ.
          وقيل: إنه ابنُ أخي شُعيبٍ، كما ذكرَه أحمدُ في ((تفسيره)).
          وعبارةُ البغَويِّ: واختلَفوا في اسمِ أبيهما، فقال مجاهدٌ والضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ والحسَنُ: هو شُعيبٌ النَّبيُّ عليه السَّلامُ، وقال وهبٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ: هو يَثرونُ ابنُ أخي شُعيبٍ، وكان شعيبٌ ماتَ قبل ذلك بعدما كُفَّ بصَرُه، فدُفنَ بين المقامِ وزَمزمَ، وقيل: رجلٌ ممَّن آمنَ بشُعيبٍ، انتهى.
          وذكرَ السُّهيليُّ: أنَّ شُعيباً هو ابنِ يَثرونَ بنِ صَيفونَ بنِ مديَنَ بنِ إبراهيمَ عليهما السلام، وقيل: شعيبُ بن ملكاين، وقيل: لم يكُنْ من مَدينَ، وإنما هو من القَومِ الذين آمَنوا بإبراهيمَ حين نجَّاه اللهُ من النَّار، وابنَتاه: ليا وصَفُورا، وأكثرُ النَّاسِ على أنَّهما بِنتا شُعيبٍ النَّبيِّ، وقيل: إنَّ شُعيباً من عنَزةَ بنِ أسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نزارٍ، وُرويَ أنَّ سلَمةَ بنَ سعدٍ لمَّا انتسَبَ للنَّبيِّ صلعم إلى عنَزةَ قال عليه السَّلامُ: ((نِعمَ الحيُّ عَنَزةُ؛ رَهْطُ شُعَيبَ وأَختانُ موسى)).
          قال ابنُ الملقِّنِ بعد أن ذكَرَه: فإن صحَّ هذا، / فعَنَزةُ إذن ليس هو ابنَ أسَدِ بنِ ربيعةَ، فإنَّ سَعْداً كان بعد شُعيبٍ بنحوِ ألفِ سنةٍ. انتهى.
          وقوله: (الخازِنُ الأمينُ، ومَن لم يستعمِلْ مَن أرادَه) مجرورٌ عَطْفاً، أو مرفوعٌ على ما قبلَه، قال القسطلانيُّ كالعينيِّ: وهذان الجُزءانِ من جُملةِ التَّرجمةِ، وقد ساق المصنِّفُ لكلٍّ منهما حديثاً على الترتيبِ، فالتَّرجمةُ تشتمِلُ على ثلاثةِ أشياءَ:
          الأولِ: ((استِئجارُ الرجلِ الصَّالحِ)) ودليلُه الآيةُ، وكأنَّ المصنِّفَ لم يجِدْ حديثاً على شَرطِهِ.
          والثاني: ((الخازِنُ الأمينُ)) ودليلُه: الحديثُ الأولُ.
          والثالثِ: ((مَن لم يستعمِلْ مَن أرادَهُ)) ودليلُه الحديثُ الثاني، وأمَّا ضميرُه المرفوعُ فهو عائدٌ على: ((مَن)) الثانيةِ بمعنى: مُريداً لعملٍ، وأمَّا فاعلُ: ((يستعمِلْ)) فهو عائدٌ على: ((مَن)) الأولى التي بمعنى الإمامِ، كما قال الكرمانيُّ.
          ويحتملُ أنه أعمُّ من الإمامِ؛ لقياسِ غيرِه عليه، وضميرُ ((أرادَه)) المنصوبُ عائدٌ على العملِ المفهومِ من المقامِ، قال الإسماعيليُّ: ليس في الحديثَين معنى الإجارةِ. وقال الدَّاوديُّ: ليس حديثُ الخازنِ الأمينِ من هذا البابِ؛ لأنَّه لا ذِكرَ للإجارةِ فيه.
          وقال ابنُ التِّين: أرادَ البخاريُّ أنَّ الخازنَ لا شيءَ له في المالِ، وإنما هو أجيرٌ، ويقرُبُ منه قولُ الكرمانيِّ: خازنُ مالِ الغيرِ كالأجيرِ لصاحبِ المال.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: إنَّما أدخلَه في هذا البابِ؛ لأنَّ مَن استؤجِرَ على شيءٍ فهو أمينٌ فيه، وليس عليه في شيءٍ منه ضَمانٌ إذا تَلِفَ، إلا إذا قصَّرَ.
          وتبِعَه الزَّركشيُّ في ((التنقيح))، واعترضَهما في ((المصابيح)): بأنَّ سقوطَ الضَّمانِ ليس مَنوطاً بالأمانةِ، وإنما هو مَنوطٌ بالائتمانِ، حتى لو ائتمَنَه خائناً لم يكُنْ عليه ضَمانٌ، والمذكورُ في الحديثِ: مَن اتَّصفَ بالأمانةِ في الواقِعِ، فأنى يؤخَذُ منه ما قالاه؟!، انتهى.
          وقد يقالُ معنى الأمينِ في الحديثِ: هو المؤتمَنُ، فيصِحُّ ما قالاه، فتدبَّرْه.
          وأما دخولُ الحديثِ الثاني في التَّرجمةِ فظاهرٌ من جهةِ أنَّ الذي يطلُبُ العملَ إنَّما يطلُبُه غالباً لتَحصيلِ الأجرةِ التي شُرعَت للعاملِ، والعمَلُ المطلوبُ يشمَلُ العملَ على الصَّدقةِ في جَمعِها وتفرقتِها في وجهِها، وله سهمٌ منها؛ لقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] قال: فدخولُه في التَّرجمةِ من جهةِ طلبِ الرَّجلين أن يستعمِلَهما النَّبيُّ صلعم على الصَّدقةِ أو غيرِها، ويكونُ لهما على ذلك أجرةٌ معلومةٌ. انتهى فتأمَّله.