الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لا نستعمل على عملنا من أراده

          2261- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) بفتح الدال الأولى مشددة؛ أي: ابنُ مُسَرهَدٍ، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) أي: ابنُ سعيدٍ القطَّانُ (عَنْ قُرَّةَ) بضم القاف وتشديد الراء (ابْنِ خَالِدٍ) أي: السَّدُوسيِّ البصريِّ.
          قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (حُمَيْدُ) بالحاء المهملة مصغَّراً (ابْنُ هِلاَلٍ) بكسر الهاء؛ أي: العدَويُّ البصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ) هو: عامرٌ المارُّ آنفاً (عَنْ أَبِي مُوسَى) أي: والدِ أبي بُردةَ؛ وهو: عبدُ الله بنُ قيسٍ الأشعَريُّ ☺ (قَالَ أَقْبَلْتُ) بسكون القاف؛ أي: أتَيتُ (إِلَى النَّبِيِّ صلعم).
          وجملةُ: (وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ) حاليةٌ مقرونةٌ بالواو والضميرِ، ولم يُسَمَّ الرجلانِ، لكن سُميَ من الأشعريِّين الذين قدمُوا مع أبي موسى في السفينةِ: كعبُ بنُ عاصمٍ، وأبو مالكٍ، وأبو عامرٍ، وغيرُهم، و((الأشعريِّين)) جمعُ: أشعَريٍّ، نسبةٌ إلى أشعَرَ؛ لأنَّ أمَّه ولدَتْه أشعَرَ، واسمُه: نَبْتُ بنُ داودَ بنِ يشجُبَ.
          (فَقُلْتُ) أي: لرسولِ الله (مَا عَلِمْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ) كذا أوردَ المصنِّفُ الحديثَ هنا مختصَراً، وسيأتي في استِتابةِ المرتدِّين مبسوطاً، ولفظُه هناك: ((ومعي رجُلانِ من الأشعَريِّين: أحدُهما عن يميني، والآخَرُ عن يساري، ورسولُ الله صلعم يَستاكُ، فكلاهما سألَ _؛ أي: العمَلَ_، فقال: يا أبا موسى؛ أو يا عبدَ الله بنَ قيسٍ؛ قال: قلتُ: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما أطلَعاني على ما في أنفُسِهما، وما شعَرتُ أنَّهما يطلُبانِ العمَلَ، فكأنِّي أنظُرُ إلى سِواكِه تحت شفَتِه قلَصَتْ)) أي: انزوَتْ.
          (فَقَالَ) ولأبي ذرٍّ: <قال> بلا فاءٍ (لَنْ أَوْ لاَ) شَكٌّ من الرَّاوي، هل قالَ النَّبيُّ: ((لن)) أو: ((لا)) (نَسْتَعْمِلُ) بفتح النون أوله، ويجوزُ فيه النصبُ والرفعُ، وعلى كلٍّ منهما ففيه حذفٌ من الآخِرِ، لدَلالةِ متقابلِهِ، لكن قال في ((المصابيح)): فيه غَرابةٌ من جِهةِ حذفِ منصوبِ: ((لن)) و((نستعمِلُ)) مرفوعٌ، وهو المنفيُّ بـ((لا))، انتهى، فتأمَّلْه؛ أي: لا نولِّي.
          (عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ) أي: العمَلَ، وما ذُكرَ من: ((لن)) أو: ((لا)) بالشَّكِّ هو الثابتُ في جميعِ الرِّواياتِ كما قاله الشرَّاحُ، لكن حكى ابنُ التِّينِ أنَّه ضُبطَ في بعضِ النُّسَخ: <لن أُوَلِّيَ> بضم الهمزة وفتح الواو وتشديد اللام مكسورة، مضارعُ المتكلِّمَ وحدَه، من الولايةِ.
          قال القطبُ الحلبيُّ: فعلى هذه الرِّوايةُ يكونُ: ((نستعمل)) زائداً؛ أي: لكنه مؤكِّدٌ، ويعضُدُ هذه الرِّوايةَ كما في ((الفتح)) ما في الأحكامِ بلفظِ: ((إنَّا لا نولِّي على عمَلِنا)) وكذا يعضُدُها ما في نسخةِ الميدوميِّ هنا: <إنَّا لا نستعمِلُ>، فافهَمْ.
          قال المهلَّبُ: لمَّا كان طلَبُ العَمالةِ دليلاً على الحِرصِ ناسَبَ أن يُحترَصَ من الحَريصِ، فلذلك قال عليه السَّلامُ: ((لا نستعمِلُ على عمَلِنا مَن أرادَه)) لِما فيه من التُّهمة، ولأنَّ مَن سألَ الوِلايةَ وُكِلَ إليها، ولا يُعانُ عليها، كما أخبرَ بذلك عليه السَّلامُ، قاله ابن الملقِّن.
          وظاهرُ الحديثِ _كما في ((الفتح))_: منعُ توليةِ مَن يحرِصُ على الوِلايةِ، إما على سبيلِ التَّحريمِ أو الكراهةِ، والجمهورُ على الكَراهةِ، وجنَحَ القرطبيُّ إلى التحريمِ، لكن استَثنى منهما مَن تعيَّنَتْ عليه، فإنَّه يتعيَّنُ عليه طلَبُها إذا لم يُطلَبْ إليها، ولا حُرمةَ.
          وفي العينيِّ: وقال القرطبيُّ: هذا نهيٌ وظاهرُه التَّحريم، كما قال صلعم: ((لا تسألِ الإمَارةَ وإنَّا واللهِ لا نولِّي على عَمَلنا هذا أحداً يسعَى له ويحرصُ عليهِ، قال: فلمَّا أعرَضَ عنهما ولم يولِّهما لحرصِهِمَا ولَّى أبا موسَى الَّذي لم يحرصْ عليها، والسَّائلُ الحريصُ يُوكلُ إليها ولا يُعان عليها، انتهى / .
          وحديثُ الباب أخرجَه المصنِّفُ أيضاً في الأحكام وفي استتابةِ المرتدِّين، ومسلمٌ في المغازي، وأبو داودَ في الحدود، والنَّسائيُّ في القضاء.