الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام

          ░3▒ (باب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ) من إضافةِ المصدرِ إلى مفعولِهِ بعد حذفِ فاعلِهِ، كقولهِ تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت:49] أي: بابُ جواز استئجارِ المسلمينَ المشركين (عِنْدَ الضَّرُورَةِ) أي: الحاجةِ إلى استِئجارِ المشرِكِ بأنْ لم يوجدْ مسلمٌ يستأجِرُه، فقولُه: (وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ) تفسيرٌ لما قبلهُ، وفي بعضِ النُّسخ: <وإذا لم يجِدْ> بحذفِ الواوِ من: ((يوجد)) والبناء للفاعلِ، وفي بعض النُّسَخ: <أو إذا لم يوجَدْ> بـ<أو> التي للشَّكِّ، ويحتمِلُ أنها بمعنى الواو، وفي بعضِ الأصُول: <إذا / لم يوجَدْ> من غير واوٍ ولا أو، وجوابُ ((إذا)) محذوفٌ لدلالة المَقامِ عليه، ويحتمِلُ أنَّها لمجرَّدِ الظرفيةِ، فلا تقتضي جواباً.
          قال في ((الفتح)): وأشار في التَّرجمةِ بقوله: ((إذا لم يوجَدْ أهلُ الإسلام)) إلى ما أخرجَه أبو داودَ عن ابنِ عمرَ:((أنَّ النَّبيَّ قاتَلَ أهلَ خيبرَ)) فذكرَ الحديثَ.
          وقال فيه: ((وأراد أن يُجليَهم، فقالوا: يا محمَّدُ؛ دعنا نعمَلْ في هذه الأرضِ، ولنا الشطرُ، ولكمُ الشَّطرُ...)) الحديثَ، قال: وإنَّما أجابَهم إلى ذلك لمعرفتِهِم بما يُصلِحُ أرضَهم دون غيرِهم، قال: فنزَّلَ المصنِّفُ من لا يعرِفُ منزِلةَ مَن لم يوجَدْ، انتهى. والمرادُ بـ((المشركين)): ما يشمَلُ الذِّميَّ وغيره.
          قال في ((الفتح)) و((العمدة)): هذه التَّرجمةُ تشعر بأنَّ المصنِّفَ يرى امتناع استئجَارِ المشرِكِ، حربيًّا كان أو ذمِّياً، إذا أمكَن استئجارُ مسلمٍ يصلُحُ لذلك العمَلِ.
          قال في ((الفتح)): لكن في استشهادِهِ بقصَّةِ معامَلةِ النَّبيِّ يهودَ خَيبرَ على أن يزرَعوها، وباستئجار الدليلِ المشرِكِ لمَّا هاجَرَ على ذلك نظرٌ؛ لأنَّه ليس فيهما تصريحٌ بالمقصودِ من منعِ استئجارِهم، قال: وكأنَّه أخذَ ذلك من هذَين الحديثَينِ مضموماً إلى قولِه صلعم: ((إنَّا لا نستعينُ بمُشركٍ)) أخرجه مسلمٌ وأصحاب ((السُّنن))، فأرادَ الجمعَ بين الأخبَارِ بما ترجَمَ به، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ فقال: كيف ينبغي التَّصريحُ بالمقصودِ فيه؟ فإنَّ معاملتهِ عليه السَّلامُ يهودَ خيبرَ على الزِّراعةِ في معنى استئجارِه إيَّاهم صَريحاً، انتهى.
          وأقول: الظاهرُ أنَّ مرادَ ((الفتح)) من نفي التَّصريحِ بالمقصود من مَنعِ استئجارِهم؛ أي: مع وجودِ مسلمٍ صالحٍ لذلك، لا ما ذكرَه العينيُّ، فتأمَّلْ. ثم رأيتُه في ((الانتقاض)) قال: راحَتْ مشرِّقةً ورُحتُ مغرِّباً، انتهى.
          وقال العينيُّ: وجهُ مطابقةِ التَّعليقِ للتَّرجمةِ أنه صلعم عامَلَ يهودَ خيبرَ على العملِ في أرضِها؛ إذ لم يوجَدْ من المسلمين من ينوبُ مَنابَهم في عملِ الأرضِ في ذلك الوقتِ، ولما قَويَ الإسلامُ استغنى عنهم، حتى أجلاهم عمرُ بنُ الخطَّابِ ☺، قال: وسقطَ بذلك قولُ بعضِهم: وفي استشهادِه بقصَّةِ معامَلةِ النَّبيِّ يهودَ خَيبرَ على أن يزرَعوها نظَرٌ؛ لأنَّه ليس فيها تصريحٌ بالمقصود، انتهى.
          وفيه أنَّ ما قرَّرَه لا يُسقِطُ قول بعضِهم: وفي استشهادِه... إلخ، لأنَّه ليس فيه أنه لا يجوزُ استئجارُهم مع وجود مسلمٍ ينفي التَّصريحَ بالمقصودِ، كيف وقد أبقاهم أبو بكرٍ على ذلك مع وجودِ مسلمٍ يصلُحُ للعملِ، وأمَّا إجلاءُ عمر لهم، فلأمرٍ اقتضاه اجتهادُه، فتدبَّرْ.
          وقد يقالُ لما قلناه: قولُ ابن بطَّالٍ: عامَّةُ الفقهاءِ يُجيزونَ استِئجارَهم عند الضَّرورةِ وغيرِها؛ لما في ذلك من الذِّلةِ لهم، وإنَّما الممتنِعُ أن يؤاجرَ المسلمُ نفسَه من المشرك؛ لما فيه من إذلالِ المسلم، انتهى.
          وخالفَ في ذلك أبو حنيفةَ دون صاحبَيه، فقال: لا يُكرَهُ ذلك، ويطيبُ له الأجرةُ، فتدبَّرْ.
          ولا يرِدُ على ما قاله ما رواه عبدُ الرزَّاقِ عن ابن جُريجٍ عن ابن شهابٍ قال: ((لم يكُنْ للنبيِّ عُمَّالٌ يعملونَ بها نخلَ خَيبرَ وزَرْعَها، فدعا النَّبيُّ يهودَ خَيبرَ، فدفعَها إليهم...)) الحديث، انتهى.
          أي: لأنَّه لا يلزَمُ من ذلك أنه لا يصحُّ استئجارُهم مع وجودِ مسلمٍ يقومُ بذلك، فتأمَّلْه. لكنْ صَنيعُ البُخاريِّ يقتضي أنه لا / يجوزُ ذلك إلا للضَّرورةِ.
          قال في ((المصابيح)) نقلاً عن ابن المنيِّر: أراد البُخاريُّ أنه لا يُستعانُ في الإجارةِ إلا بالأخيارِ؛ لأنَّها تستدعِي الخِلطةَ، بخلاف المبايَعةِ، فترجَمَ أولاً على استئجارِ الصَّالحين، ثم ترجَمَ ثانياً على استِئجارِ المشركين، وبيَّنَ أنَّه منوطٌ بالضَّرورة، وساقَ من الأحاديثِ ما يُناسِبُ ذلك، فعلى هذا: لا يُساقى الكافِرُ ولا يُعارَضُ ولا يُستخدَمُ ولا يُخالَطُ في مثلِ هذا إلا لضرورةٍ، انتهى.
          (وَعَامَلَ النَّبِيُّ صلعم يَهُودَ خَيْبَرَ) أي: على أن يزرَعوا أرضَها ويتعهَّدوا نخلَها بشطرِ ما يخرُجُ منها، ومثلُ الشَّطرِ غيرُه من تمرٍ أو زَرعٍ، وتسمَّى هذه المعامَلةُ: مُساقاةً، وأجازها الشَّارعُ وفعَلَها؛ لأنَّ الحاجةَ ماسَّةٌ إليها، والاستئجارُ لذلك بأجرةٍ فيه ضررٌ على المالكِ بتغريمِهِ حالاً مع أنه قد لا يطلُعُ شيءٌ، وقد يتهاوَنُ الأجيرُ في العملِ لأخذِه الأجرةَ، والمسَاقاةُ جائزةٌ عند جميع العلماءِ خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنَّه لا يجوِّزُها.
          وأجابَ عن معاملتِهِ عليه السَّلامُ لأهلِ خيبرَ بأنها معامَلةٌ مع الكفَّار، قال: فاحتُملَ فيها الجهالةُ، وتُعقِّبَ بأنهم كانوا مستأمَنين، فلهُم ما للمسلمينَ في الأحكامِ.
          قال في ((التُّحفة)): وبالغَ ابنُ المنذرِ في ردِّ مخالفةِ أبي حنيفةَ فيها، قال: ومن ثم خالَفَه صاحبَاه، انتهى.
          ولا تجوزُ إلَّا في النَّخلِ والعنبِ على الصَّحيح، وجوَّزَها الشافعيُّ في القديمِ في سائرِ الأشجارِ المثمرة.