الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد

          1040- وبالسند قال: (حَدَّثَنا عَمَرُو بنُ عَوْنٍ): بفتح العين فيهما (قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ): أي: ابن عبد الله الواسطيُّ الطَّحَّان (عَن يُونُسَ): أي: ابن عُبيدٍ، بالتَّصغير (عَن الحَسَنِ): أي: البصريِّ (عَن أَبِي بَكْرَةَ): بتاء التَّأنيث آخره؛ أي: نفيع بن الحارث الثَّقفي ☺، ورواية الحسن عن أبي بكرة متَّصلةٌ عند البخاريِّ، منقطعةٌ عند أبي حاتمٍ والدَّارقطنيِّ، والرَّاجح الاتِّصال، وسيأتي بعد أربعة أبوابٍ تصريحه بإخبار أبي بكرة له، وقال ابن رجبٍ: سماع الحسن من أبي بكرة صحيحٌ عند البخاريِّ وابن المدينيِّ وغيرهما، وخالف فيه ابن معينٍ. انتهى.
          والإسناد كلُّه بصريُّون.
          (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ): ولأبي ذرٍّ: <عند النبيِّ> (صلعم فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ): بمعنى: كسفت المجرَّد، وأنكر القزَّاز: انكسفت، وقال الجوهريُّ: العامَّة تقول: انكسفت، والحديث يردُّ عليهما.
          (فَقَامَ النَّبِيُّ): ولأبوي ذرٍّ والوقت: <رسول الله> (صلعم) وجملة: (يَجُرُّ رِدَاءَهُ): حالٌ؛ أي: يسحبه من غير خيلاء حاشاه الله من ذلك، زاد في اللِّباس: ((مستعجلاً))، وللنَّسائيِّ: ((من العجلة))، ولمسلمٍ عن أسماء: كسفت الشمس على عهدِ رسول الله صلعم، ففزع فأخطأ بدرعٍ حتَّى أدرك بردائه؛ يعني: أراد لبس ردائه فلبس الدِّرع لشغل خاطره بذلك، واستُدلَّ به على أنَّ جرَّ الثَّوب لا يُذَمُّ إلَّا بقصد الخيلاء.
          وقوله: (حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ): غايةٌ لـ((يجرُّ رداءه)) أو لـ((قام النَّبيُّ))؛ أي: فذهب من مكانه حال كونه يجرُّ رداءه حتَّى دخل المسجد (فَدَخَلْنَا): أي: المسجد معه (فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ): أي: للكسوف، زاد النَّسائيُّ: ((كما تصلُّون))، واستدلَّ به مَن قال: إنَّ صلاة الكسوف كصلاة النَّافلة، وأيَّده العينيُّ بحديث ابن مسعودٍ عند ابن خزيمة في ((صحيحه))، وعبد الرَّحمن بن ضمرة عند مسلمٍ والنسائيِّ، وسمرة بن جندبٍ عند أصحاب ((السُّنن)) الأربعة، وابن عَمرو بن العاصي عند الطحاويِّ، وصحَّحه الحاكم ولفظ حديثه: قال: كسفت الشَّمس على عهد النبيِّ فقام بالنَّاس، / فلم يكد يركع ثمَّ ركع، فلم يكد يرفع ثمَّ رفع، فلم يكد يسجد ثمَّ سجد، فلم يكد يرفع ثمَّ رفع، وفعل في الثَّانية مثل ذلك، فرفع رأسه وقد امحصت الشَّمس. وذكر أحاديث الباقين وغيرهم وأطال، وهي دالَّةٌ بظاهرها على أنَّها كغيرها من الصلوات بركوعٍ واحدٍ.
          قال في ((الفتح)): وحمل البيهقيُّ وابن حبَّان _أي: وكثيرون_ رواية النسائيِّ: ((كما تصلُّون)): أي: في الكسوف؛ لأنَّ أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عبَّاسٍ علَّمهم أنَّها ركعتان، في كلِّ ركعةٍ ركوعان، كما روى ذلك الشَّافعيُّ وابن أبي شيبة، ويؤيِّده: أنَّ في رواية عبد الوارث الآتية في أواخر الكسوف أنَّ ذلك وقع يوم مات إبراهيم، وثبت في حديث جابرٍ عند مسلمٍ مثله، وفي الأحاديث: أنَّ في كلِّ ركعةٍ ركوعين، فدلَّ ذلك على اتِّحاد القصَّة، وظهر أنَّ رواية أبي بكرة مطلقةٌ، ووقع في أكثر الطُّرق عن عائشة: أنَّ في كلِّ ركعةٍ ركوعين. انتهى ملخَّصاً.
          وأقولُ: وأمَّا رواية غير النسائيِّ ممَّن ذكرناهم وإن كان ظاهرها يدلُّ لِمن قال بركوعٍ واحدٍ فهي ممكنة التَّأويل، والرُّجوع إلى الأحاديث المصرِّحة بالرُّكوعين، فتأمَّل.
          تنبيهٌ: اختُلِف في كيفيَّة صلاة الكسوف، فعند مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ واللَّيث وكثيرين صلاة الكسوف ركعتان، في كلِّ ركعةٍ ركوعان وسجودان، وعند قتادة وإسحاق وعطاء وابن المنذر ركعتان، في كلِّ ركعةٍ ثلاث ركوعاتٍ، وعند طاوس وحبيب بن أبي ثابتٍ وابن جريجٍ ركعتان، في كلِّ ركعةٍ أربع ركوعاتٍ، وعند ابن جبيرٍ وابن راهويه في روايةٍ وابن جريرٍ الطَّبريِّ: لا تعيين لعددٍ، بل يكثر ويقلل بحسب الحاجة من الانجلاء وعدمه، قال عياضٌ: وإلى هذا نحا الخطَّابيُّ ويحيى وغيرهما، وقد يعترض عليه بأنَّ طولها ودوامها لا يُعلَم من أوَّل الحال ولا من الرَّكعة.
          وعند أبي حنيفة وصاحبيه والثوريِّ وإبراهيم النخعيِّ وآخرين هي ركعتان، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ واحدٌ وسجدتان، وهو مرويٌّ عن ابن عمر وأبي بكرة وسمرة وابن عَمرٍو وقبيصة والنُّعمان بن بشيرٍ وابن الزُّبير وابن عبَّاسٍ، وقال العينيُّ: وفي ((المحيط)) عن أبي حنيفة: إن شاؤوا صلَّوها ركعتين، وإن شاؤوا أربعاً، وفي ((البدائع)): وإن شاؤوا أكثر من ذلك، هكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة. انتهى، وعند الحنابلة: تجوز الزِّيادة على ركوعين إلى خمسٍ، قال في ((المنتهى)): وإن أتى في كلِّ ركعةٍ بثلاث ركوعاتٍ أو أربعٍ أو خمسٍ فلا بأس. انتهى، وهو قولٌ ضعيفٌ عندنا، لكن إذا تمادى الكسوف فيزيد في أثنائها إلى الخمس، ورجَّح الأكثرون ما ذهب إليه الشَّافعيُّ والبخاريُّ من ترجيح أخبار الرُّكوعين بأنَّها أشهرُ وأصحُّ؛ لأنَّ الواقعة واحدةٌ.
          نعم، روى ابن حبَّان في ((الثِّقات)): أنَّه عليه السَّلام صلَّى بخسوف القمر، فتكون الواقعة متعدِّدةً، وعليه السبكيُّ والأوزاعيُّ، وسبقهما إلى ذلك النَّوويُّ في ((شرح مسلمٍ))، فنقل فيه عن ابن المنذر وغيره: أنَّها تجوز بكلِّ واحدٍ من الأنواع الثَّابتة؛ لأنَّها جرت في أوقاتٍ، واختلافُ صفاتها محمولٌ على جواز الجميع، قال: وهذا أقوى. انتهى، ويجوز عندنا أن / يصلِّيها ركعتين ابتداءً كسنَّة الظُّهر، لكنَّ الأفضل بركوعين خلافاً للبندنيجيِّ حيث قال: لا تجوز ركعتين، ووافقه آخرون، وجمع بعضهم بأنَّ المنع محمولٌ على ما إذا نواها ابتداءً بركوعين، والجواز على ما إذا نواها كذلك بركوعٍ، فاعرفه.
          وقال الرَّمليُّ: وأفتى الوالد بجواز الأمرين لمن نوى صلاة الكسوف وأطلق. انتهى، وأمَّا إذا نواها بإحدى الصِّيغتين فيتعيَّن إتمامها كما نواها وإن انجلت الشَّمس أو القمر أو استمرَّا مكسوفَين، وتفاصيل ذلك مذكورٌ في الفروع، فراجعها.
          وقوله: (حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ): بنونٍ بعد همزة الوصل، غايةٌ لـ((صلَّى بنا ركعتين)) وهو صادقٌ بكونهما بركوعين في كلِّ ركعةٍ وبواحدٍ، زاد ابن خزيمة: ((فلمَّا كشف عنا خطبنا)) (فَقَالَ صلعم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ): بالنُّون فالكاف (لِمَوْتِ أَحَدٍ): قاله عليه السَّلام لمَّا مات ولده إبراهيم وقال النَّاس: إنَّما كسفت لموته، فعند ابن حبَّان: ((قال النَّاس: إنَّما انكسفت الشَّمس لموت إبراهيم)) ولأحمد والنسائيِّ وابن ماجه وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان عن النعمان بن بشيرٍ قال: انكسفتِ الشَّمس على عهد رسول الله فخرج فزعاً يجرُّ ثوبه حتَّى أتى المسجد، فلم يزل يصلِّي حتَّى انجلى، قال: ((إنَّ النَّاسَ يزعمون أنَّ الشَّمسَ والقمرَ لا ينكسفانِ إلَّا لموتِ عظيمٍ من العظماء، وليس كذلكَ)) الحديث.
          وفيه: إبطالٌ لِما كان أهل الجاهليَّة يعتقدونَه من تأثير الكواكب في الأرضِ نحو قولهم: مُطرنا بنَوء كذا، وقال الخطابيُّ: كانوا في الجاهليَّة يعتقدون أنَّ الكسوف يُوجِب حدوث تغيُّرٍ في الأرض مِن موتٍ أو ضررٍ، فأعلم النبيُّ أنَّه اعتقادٌ باطلٌ، وأنَّ الشَّمس والقمر مخلوقان مسخَّران لله، ليس لهما سلطانٌ في غيرهما، ولا قدرة على الدَّفع عن أنفسهما.
          (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا): بالتَّثنية لكريمة وبالفاء، وفي بعض النُّسخ بالواو؛ أي: الشَّمس والقمر منكسفَين، ولأبي الوقت: <رأيتموها> بالإفراد؛ أي: الكسفة المدلول عليها بـ((لا ينكسفان)) أو الآية؛ لأنَّ الانكساف آيةٌ من آيات الله (فَصَلُّوا وَادْعُوا، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ): ببناء: ((يُكشَفَ)) للمفعول، وفي نسخةٍ: <ينكشف> بزيادة نونٍ وبنائه للفاعل، واستدلَّ به على إطالة الصلاة حتَّى يقع الانجلاء، وأجاب الطحاويُّ: بأنَّه يُقال لهم: لا تتعيَّن الصَّلاة، بل إمَّا هي وإمَّا الدُّعاء لقوله فيه: ((فصلُّوا وادعوا))، وقرَّره ابن دقيقٍ العيد بأنَّ الغاية لمجموع الأمرَين، ولا يلزم أن يكون غايةً لكلِّ واحدٍ منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدُّعاء ممتدًّا إلى الانجلاء بعد الصلاة، ولا يلزم منه تطويلُ الصَّلاة ولا تكريرها. انتهى، وردَّه العينيُّ فقال: قد ذكر في الحديث الصَّلاة والدُّعاء بواو الجمع، فاقتضى أن يجمعَ بينهما إلى وقت الانجلاء قبل الخروج من الصَّلاة، وذلك لا يكون إلَّا بإطالة الرُّكوع والسُّجود بالذِّكر فيهما وبإطالة القراءة. انتهى.
          وأقولُ: الجمع بينهما؛ أي: وقت الانجلاء صادقٌ بكونه قبل الخروج من الصَّلاة وبعدها؛ لأنَّ المراد اتِّباعهما بعد الكسوف، والواو لمطلق الجمع، فافهم.
          وقال في ((الفتح)): وأمَّا ما وقع عند النسائيِّ عن النُّعمان بن بشيرٍ قال: كسفت الشَّمس على عهد رسول الله، فجعل يصلِّي ركعتَين ركعتَين، ويسأل عنها حتَّى انجلت، فإن كان / محفوظاً احتمل أن يكون معنى ((ركعتين)): ركوعين، وأن يكون السُّؤال وقع بالإشارة، فلا يلزم التَّكرار، فقد أخرج عبدُ الرَّزاق بسندٍ صحيحٍ عن أبي قلابة: ((أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان كلَّما ركع ركعةً أرسل رجلاً ينظر هل انجلت)) فتعيَّن هذا الاحتمال، وإن ثبت تعدُّدُ القصَّة زال الإشكال أصلاً. انتهى.
          قال العينيُّ: مراده الردُّ على الحنفيَّة في قولهم: إنَّ صلاة الكسوف كسائر الصَّلوات بلا تكرار ركوعٍ، ولا يساعده ما ذكره؛ لأنَّ تأويله ((ركعتين)) بركوعين تأويلٌ فاسدٌ باحتمالٍ ناشئٍ عن غير دليلٍ. انتهى.
          وأقولُ: تأويله ليس ناشئاً من غير دليلٍ، بل ذكره بقوله: وقد وقع التَّعبير عن الرُّكوع بالرَّكعة في حديث الحسن قال: خسف القمر وابن عباسٍ بالبصرة فصلَّى ركعتين، في كلِّ ركعةٍ ركعتان. أخرجه الشافعيُّ.
          واعترض العينيُّ على ((الفتح)) في احتمال أن يكون السُّؤال بالإشارة بالحديث الذي استدلَّ به ((الفتح)) لتعيين احتمال أنَّ السُّؤال بالإشارة، ويدفع بأنَّ الاحتمال في الحديث موجودٌ بأن يكون معنى ((أرسل))... إلخ؛ أي: بالإشارة وإن كان الظَّاهر منه العبارة، فافهم.
          وقال الرمليُّ عن حديث النسائيِّ بعد أن قال: رواه أبو داود وغيره بإسنادٍ صحيحٍ: أجاب عنه الوالد بأنَّ ما صلَّاه بعد الرَّكعتين لم ينوِ به الكسوف، فإنَّ وقائع الأحوال إذا تطرَّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال. انتهى، وقال قبله: وعلم ممَّا تقرَّر امتناع تكريرها ببطء الانجلاء، ثمَّ قال: لو صلَّاها، ثمَّ أدركها مع الإمام فله أن يعيدَها كما في المكتوبة. انتهى ملخَّصاً.
          وقال ابن حجرٍ: ولا تجوزُ إعادة صلاتها لتمادي الكسوف إلَّا فيما لو صلَّاها منفرداً أو جماعة ثمَّ رأى جماعةً يصلُّونها سُنَّ له إعادتها معهم. انتهى مفرَّقاً ملخَّصاً.
          وأقولُ: وكذا عند الحنابلة كما في ((المنتهى))، بل يذكرون الله ويدعونه، وقيل: تُعاد ركعتين.
          والحديث رواته كلُّهم بصريُّون إلَّا خالداً، وأخرجه المصنِّف في اللِّباس، والنسائيُّ في الصَّلاة والتَّفسير.