نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وهو ألد الخصام}

          ░15▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]) أي: باب ما جاء في الحديث ممَّا يوافق قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، وتمام الآية قوله تعالى: {(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ)}؛ أي: يروقك ويعظم في قلبك، ومنه الشَّيء العجيب الذي يعظم في النَّفس، والعجب: حيرة تعرض الإنسان لجهله بسبب المتعجَّب منه.
          قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: يعجبك ما يقوله له في معنى الدُّنيا، وما يقصد أهلها منها، وهو الحظوظُ الفانية والأغراض الفاسدة، أو في أمور الدُّنيا وأسباب المعاش التي تطلبُ لتأديتها إلى تلك المعاني والمقاصد، فإنَّ من ادَّعى المحبَّة بالباطلِ يطلب به حظًّا من حظوظ الدُّنيا ولا يريد به الآخرة، كما تُراد بالإيمان الحقيقيِّ والمحبَّة الصَّادقة للرَّسول صلعم ، وعلى التَّقديرين لا بدَّ من اعتبار المضاف.
          ويجوز أن يتعلَّق قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بـ{يُعْجِبُكَ}؛ أي: يعجبك قوله في الدُّنيا حلاوةً وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الدَّهشة والحُبْسة واللُّكنة، أو لأنَّه لا يُؤذَن له في الكلام فلا يتكلَّم حتَّى يعجبك كلامه.
          {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}؛ أي: يحلفُ ويقول: الله شاهدٌ على ما في قلبي من محبَّتك ومن الإسلام وإنَّ ما في قلبي موافقٌ لكلامه، أو المعنى: إنَّه يُظهِر للنَّاس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنِّفاق. وهذا ما رُوِي عن ابنِ إسحاق عن محمَّد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس ☻ .
          وقرئ: <ويَشهد الله> بفتح ياء يَشهد، ورفع لفظة الجلالة، وفي مصحف أُبيٍّ ☺ <ويستشهد الله>.
          {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] والألدُّ في اللُّغة: الأعوج، قال تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [مريم:97] ؛ أي: عوجاً، وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزوِّر عن الحقِّ، ولا يستقيم معه، بل يغترُّ ويفجر، ويُقال: الألدُّ هو شديدُ الجدال والعداوة.
          وفي «الجامع»: اللَّدَد مصدر الألد، ورجل ألدُّ: إذا اشتدَّ في الخصومة، والأنثى لداء، واللَّدد: الجدال، أخذاً من لديد الوادِي؛ أي: جانبه، كأنَّه إذا منع من جانب جاء من جانبٍ آخر.
          وفي تفسير عبد الرَّحمن عن ابن عبَّاس ☻ {أَلَدُّ الْخِصَامِ}؛ أي: ذو جدالٍ إذا كلَّمك وراجعك.
          وعن الحسن: كاذب القول، وعن مجاهدٍ: ظالمٌ لا يستقيم، وعن قتادة: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل. / وقال ابنُ سِيْده: لَدَدْت لَدَداً: صرت ألَدَّ، ولَدَدْته ألُدُّه؛ إذا خصَمْتُه. وقيل: مأخوذٌ من اللَّدِيدَيْن، وهما صفحتا العنق.
          والمعنى: من أيِّ جانبٍ أخذ في الخصومة قَوِيَ، والخصام المخاصمة، وإضافة الألدِّ [إليه] بمعنى في كقولهم: ثبت العذرُ. أو جعل الخصام جمع: خصم، كصعب وصعاب بمعنىً، وهو أشدُّ الخصوم خصومةً، قاله الزَّجاج.
          قال السُّدِّي: هذه الآية وثلاث آيات بعدها نزلت في الأخنسِ بنِ شَرِيْق كان رجلاً حلو المنطق إذا لقيَ رسول الله صلعم أَلَانَ له القول، وادَّعى أنَّه يحبُّه، وأنَّه مسلم، وقال: يعلم الله أنِّي صادقٌ، وفي باطنه خلاف ذلك.
          وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّها نزلت في نفرٍ من المنافقين تكلَّموا في خُبَيب وأصحابه الذين قُتلوا بالرَّجيع وعابوهم، فأنزلَ الله ذمَّ المنافقين كلِّهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحدٍ، وهو الصَّحيح.
          وقال ابن جرير: حدَّثني يونس: أنا ابن وهب: أخبرني اللَّيث بن سعدٍ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال القرظيِّ عن نوفٍ _وهو البكاليُّ وكان ممَّن يقرأ الكتب_، قال: إنِّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمَّة في كتاب الله المنزل، قومٌ يحتالون الدُّنيا بالدِّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصبر، يلبسون لباس مُسوك الضَّأن، وقلوبهم قلوب الذِّئاب، فعليَّ يجرأون وبي يغترَّون، حلفت بنفسي لأبعثنَّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران.
          قال القرطبيُّ: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون.