نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة

          ░12▒ (بابٌ مَا يَجُوزُ مِنَ البُزَاقِ) أي: من رمي البزاق، وجاء فيه الزاي والصاد وكلاهما لغة (وَالنَّفْخِ) أي: وما يجوز من النَّفخ (فِي الصَّلاَةِ) وجه التَّسوية بين البصاق والنَّفخ أنَّه ربما ظهر من كلٍّ منهما حرفان، وهما أقلُّ ما يتألَّف منه الكلام، وسيأتي فيه الكلام إن شاء الله تعالى.
          (وَيُذْكَرُ) على صيغة المجهول (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أي: ابن العاص ☻ (نَفَخَ النَّبِيُّ صلعم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ) وفي رواية: <في الكسوف>.
          وهذا طرفٌ من حديث أخرجه أحمدُ وصحَّحه ابن خُزيمة والطَّبري وابن حبَّان من طريق عطاء بن السَّائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عَمرو قال: ((كسفت الشَّمس على عهد رسول الله صلعم فقام وقمنا معه)). الحديث، وفيه: ((جعل ينفخُ في الأرض ويبكي وهو ساجدٌ وذاك في الرَّكعة / الثَّانية)).
          وفي رواية: ((ثمَّ نفخَ في آخر سجوده فقال: أف أفْ)) وأخرجه أيضاً التِّرمذي والنسائي والحاكم في «المستدرك» وقال: صحيحٌ.
          وإنَّما ذكره البخاريُّ بصيغة التَّمريض؛ لأنَّه من رواية عطاء بن السَّائب عن أبيه وهو مختلفٌ في الاحتجاج به، وقد اختلط في آخر عمره، لكن أورده ابن خُزيمة من رواية سفيان الثَّوري عنه، وهو ممَّن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وثَّقه العجليُّ وابن حبَّان، وليس هذا هو من شرط البخاريِّ.
          واعلم أنَّه قد فسَّر النَّفخ في الحديث بقوله: ((فقال أف أُفْ)) بتسكين الفاء، و«أف» لا يكون كلاماً حتَّى يشدد الفاء فيكون على ثلاثة أحرف من التَّأفيف، وهو قولك: أفٍّ لكذا، فأمَّا أفْ بتخفيف الفاء، فليس بكلام، والنَّافخ لا يخرج الفاء مشددة، ولا يكاد يخرجها فاء.
          وبهذا استدلَّ أبو يوسف على أنَّ المصلِّي إذا قال في صلاته: أف أو آه أو أخ لا تفسد صلاته.
          وقال أبو حنيفة ومحمَّد: تفسد؛ لأنه من كلام النَّاس، وأجابا بأنَّ هذا كان ثمَّ نسخ، وما يقال من أنَّ نفخه صلعم محمولٌ على أنَّه لم يظهر منه شيءٌ من الحروف مردودٌ بما ذكر من أنَّه نفخ في آخر سجوده فقال: أف أُف، حيث صرَّح بظهور الحرفين.
          وما وقع في الحديث أنَّه صلعم قال: ((وعرضت عليَّ النَّار فجعلتُ أنفخ خشية أن يغشاكُم حرُّها)) والنَّفخ لهذا الغرض لا يقع إلَّا بالقصد إليه، [و] ينفي أيضاً قول من حمله على الغلبة، والله أعلم.
          وذكر ابن بطَّال أنَّ العلماء اختلفوا في النَّفخ في الصَّلاة فكرهه طائفةٌ ولم توجب على من نفخ إعادة رُوِيَ ذلك عن ابن مسعود وابن عباس ♥ . وعن النَّخعي أيضاً وهي رواية علي بن زياد عن مالكٍ حيث قال: أكره النَّفخ في الصَّلاة ولا يقطعها، كما يقطع الكلام، وهو قول أبو يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق.
          وقالت طائفةٌ: هو بمنزلة الكلام ويقطع الصَّلاة رُوِيَ ذلك عن سعيد بن جبيرٍ، وهو قول مالك في «المدونة»، وفيه قولٌ ثالث: وهو أنَّ النَّفخ إن كان يُسمِعُ فهو بمنزلة الكلام ويقطع الصَّلاة، وهذا قول الثوري وأبي حنيفة ومحمَّد.
          والقول الأول أولى لحديث عَمرو قال: ويدلُّ على صحَّة هذا أيضاً اتِّفاقهم على جواز البصاق في الصَّلاة وليس في النَّفخ من النُّطق بالفاء والهمزة أكثر ممَّا في البصاق من النُّطق بالفاء والتاء.
          ولما اتَّفقوا على جواز الصَّلاة في البصاق جاز النَّفخ فيها أيضاً، إذ لا فرق بينهما في أنَّ كلَّ واحد منهما بحرفين.
          ولذلك ذكر البخاريُّ ☼ حديث البصاق في هذا الباب [خ¦1213] ليستدلَّ به على جواز النَّفخ؛ لأنه لم يُسنِد حديث ابن عَمرو، واعتمد على الاستدلال بحديث النُّخامة والبصاق، وهو استدلالٌ حسنٌ، انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّه يعكِّر عليه ما رواه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» بإسنادٍ جيدٍ أنَّه قال: النَّفخ في الصَّلاة كلام، وروي عنه أيضاً بإسنادٍ صحيحٍ أنَّه قال: النَّفخ في الصَّلاة يقطع الصَّلاة.
          وروى البيهقيُّ بإسنادٍ صحيح إلى ابن عباس ☻ / أنَّه كان يخشى أن يكون كلاماً؛ يعني: النَّفخ في الصَّلاة.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين: وفرَّق أصحابنا في النَّفخ بين أن يبيِّن منه حرفان أو لا، فإن بان منه حرفان وهو عامد عالم بتحريمه بطلت صلاته وإلَّا فلا، وحكاه ابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة ومحمَّد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وقال أبو يوسف: لا تبطل إلَّا أن يريد به التَّأفيف، وهو قول أفٍّ.
          وقال ابن المنذر: ثمَّ رجع أبو يوسف فقال: لا تبطلُ صلاته مطلقاً، وحكى ابن العربي وغيره عن مالك خلافاً، وأنَّه قال في «المختصر»: النَّفخ كلام لقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] وقال في «المجموع»: لا يقطع الصَّلاة.
          وقال الأبهري من المالكيَّة: ليس له حروف هجاء، فلا يقطع الصَّلاة. قال الشَّيخ زين الدِّين: وما حكيناه عن أصحابنا هو الذي جزم به النَّووي في «الرَّوضة» و«شرح المهذَّب».
          ثمَّ إنَّه حكى الخلاف فيه في «المنهاج» تبعاً لـ«لمحرر» فقال فيه: والأصح _أي: عند الشَّافعية_ أنَّه إن ظهر من النَّفخ أو التنخُّم أو البكاء أو الأنين أو التأوُّه أو التنفُّس أو الضَّحك أو التنحنح حرفان بطلت الصَّلاة وإلَّا فلا.
          تنبيه: نقل ابن المنذر الإجماع على أنَّ الضَّحك يبطل الصَّلاة، ولم يقيِّده بحرف ولا حرفين، وكأنَّ الفرق بين الضَّحك والبكاء أنَّ الضَّحك يهتك حرمة الصَّلاة بخلاف البكاء ونحوه، ومن ثمَّة قالت الحنفيَّة وغيرهم: إن كان البكاء من أجل الخوف من الله لا يبطل الصَّلاة مطلقاً.
          تنبيه آخر: ورد في كراهة النَّفخ في الصَّلاة حديث مرفوع أخرجه التِّرمذي من حديث أمِّ سلمة ♦ قالت: رأى النَّبي صلعم غلاماً لنا يقال له: أفلح إذا سجد نفخَ، فقال: ((يا أفلح تَرِّبْ وجهَك)) رواه التِّرمذي وقال: ضعيف الإسناد.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ولو صحَّ لم يكن فيه حجَّة على إبطال الصَّلاة بالنَّفخ؛ لأنَّه لم يأمره بإعادة الصَّلاة، وإنَّما يستفاد من قوله: «تَرِّب وجهك»، استحباب السُّجود على الأرض فهو نحو النَّهي عن مسح الحصى، والله أعلم.