نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قيام النبي بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل

          ░11▒ (بابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: صلاته (بِاللَّيْلِ، وَنَوْمِهِ) بالواو، وفي رواية: <من نومه> أي: قيامه من نومه للصَّلاة (وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ) عطف على مدخول بابٍ، كقوله: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]) أي: الملتفُّ في ثيابه، وأصله: المتزمِّل وهو الذي يتزمَّل في الثِّياب، وكلُّ من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل، وقلبت التاء زاياً فأدغمت، كما هو مقتضى القياس الصرفيِّ، وقُرئ: ▬المتزمل↨ على الأصل.
          والمُزَمَّل _بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها_: على أنَّه اسم فاعل أو مفعول من زمله، وهو الذي زمله غيره أو زمَّل نفسه، نُودي صلعم به؛ لأنَّه صلعم كان قائماً بالليل متزمِّلاً في قطيفة / فنُبَّه ونُودي بها.
          قال السُّهيلي: وهو تأنيسٌ وملاطفة معه صلعم ، والعرب إذا قصدت الملاطفة بترك المعاتبة نادوه باسم مشتقٍّ من حالته التي هو عليها، كقوله صلعم لعليٍّ ☺ حين غاضب فاطمة ♦ وقد نامَ ولصق بجنبه التراب: ((قمْ أبا تراب)) ملاطفةً وإشعاراً له أنَّه غير عاتبٍ عليه.
          لا كما قاله الزمخشريُّ وتبعه البيضاويُّ: أنَّه نُودي بها تهجيناً للحالة التي كان صلعم عليها من التَّزمُّل في قطيفةٍ واشتغاله في النَّوم، كما يفعل من لا يهمُّه أمرٌ ولا يعنيه شأنٌ، فإنَّه سوء أدبٍ في حقِّه صلعم على ما قاله المولى الفاضل السَّعدي.
          نعم أمره الله تعالى أن يختارَ على الهجود التَّهجد، وعلى التَّزمل التَّشمُّر للعبادة والمجاهدة في الله ╡ فلا جرم أنَّ رسول الله صلعم قد تشمَّر لذلك مع أصحابه ♥ حقَّ التَّشمر بعد ذلك، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا الرُّقاد والدَّعة، وجاهدوا فيه حتَّى انتفخت أقدامهم واصفرَّت ألوانهم، وظهرت السِّيماء في وجوههم، وترقَّى أمرهم إلى حدٍّ رَحِمَهُم لَه ربهم فخفَّف عنهم كما نطقت به هذه السُّورة: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20].
          وقيل: عن ابن عبَّاس ☻ : دخل [النبي صلعم ] على خديجة ♦ أوَّل ما أتاه جبريل ◙ في جبل حراء وبوادره ترعد فقال: ((زملوني)) وحسب أنَّ به مسًّا من الجنِّ، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}.
          وقال النخعيُّ: عن عائشة ♦: أنَّها سُئلت ما كان تزميله قالت: كان مِرْطاً (1) طوله أربعة عشر ذراعاً، ونصفه علي وأنا نائمةٌ ونصفه عليه وهو يصلِّي، فسُئلت ما كان؟ فقالت: والله ما كان خزًّا ولا قزًّا ولا مِرْعزاً ولا إبريسماً ولا صوفاً، وكان سداه شعراً ولحمته وبراً، وعلى هذا فكأنَّ الله ╡ أمره بالدَّوام على الحالة التي كان صلعم عليها.
          نقله القرطبيُّ عن الثَّعلبي عن النَّخعي، وقال ابن العراقي: لم أقف عليه.
          وقال أبو حيان: هذا كذبٌ صراح؛ لأنَّ نزول: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} بمكة في أوائل بعثته، وتزويجه عائشة ♦ كان بالمدينة. انتهى.
          وأجيب: بأنَّه يجوز أن يكون صلعم قد بات في بيت الصِّدِّيق ☺ / ذات ليلة، وكان بعض المرطِ على عائشة ♦ وهي طفلة والباقي لطوله على النَّبي صلعم ، فَحَكَتْ ذلك أمُّ المؤمنين ♦، إذ لا دَلالة فيه على أنَّها حكاية حالٍ كانت بعد البناء بها.
          رُوي: أنَّه صلعم تزوَّجها في شوال سنة عشر من النُّبوة قبل الهجرة بثلاث سنين وأعرس بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين.
          وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؛ أي: يا محمد قد زُمِّلْتَ القرآن.
          وعن عكرمة: أنَّ المعنى يا أيها الذي زمَّل أمراً عظيماً؛ أي: حمله، والزَّمل: الحمل، وتزمَّله: احتمله.
          ({قُمِ اللَّيْلَ}) أي: قم إلى الصَّلاة أو داوم عليها على الوجهين السَّابقين، وعامَّة القرَّاء على كسر الميم لالتقاء الساكنين، وقرئ: بضمها اتباعاً لحركة القاف، وبفتحها: طلباً للخفَّة، واللَّيل: ظرف القيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، وحدُّ الليل من غروب الشَّمس إلى طلوع الفجر.
          ({إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2]) أي: منه؛ أي: من الليل وهل الأمر للنَّدب أو للوجوب؟ فيه للعلماء أقوال:
          الأوَّل: أنَّه ليس بفرض يدلُّ على ذلك قوله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:3-4] وليس كذلك يكون الفرض وإنَّما هو ندبٌ.
          والثَّاني: أنَّه حتم.
          والثالث: أنَّه فرضٌ على النَّبي صلعم وحده، رُوِيَ ذلك عن ابن عبَّاس ☻ .
          وقال الحسن وابن سيرين: صلاة الليل فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ولو قدر حلب شاة، وقال إسماعيل بن إسحاق: إنَّما قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].
          وقال الشَّافعي ☼ : سمعت بعض العلماء يقول: إنَّ الله تعالى أنزل فرضاً في الصَّلاة قبل الصَّلوات الخمس فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} ثمَّ نُسِخ هذا بقوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثمَّ احتمل قوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أن يكون فرضاً ثانياً لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79].
          فوجب طلب الدَّليل من السُّنة على أحد المعنيين فوجدنا سنَّة النَّبي صلعم أن لا واجب من الصَّلوات إلَّا الخمس.
          قال أبو عمر: قول بعض التَّابعين: قيام الليل فرضٌ ولو قدر حلب شاة، قولٌ شاذ متروكٌ لإجماع العلماء أنَّ قيام الليل نُسِخ بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20].
          وروى النَّسائي من حديث عائشة ♦: افتُرِض قيام الليل أوَّل هذه السُّورة على رسول الله صلعم / وعلى أصحابه حولاً، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهراً، ثمَّ نزل التَّخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضةً، وهو قول ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وزيد بن أسلم وآخرين فيما حكى عنهم النَّحاس.
          وفي تفسير ابن عبَّاس ☻ : {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل:2] يعني: قم الليل كلَّه إلَّا قليلاً منه، فاشتدَّ ذلك على النَّبي صلعم وعلى أصحابه وقاموا الليل كلَّه ولم يعرفوا ما حدُّ القليل، فأنزل الله: { نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } [المزمل:3] فاشتدَّ ذلك أيضاً على النَّبي صلعم وعلى أصحابه فقاموا الليل كلَّه حتَّى انتفخت أقدامهم ففعلوا ذلك سنة، فأنزل الله تعالى ناسختها فقال: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني: قيام الليل من الثُّلث والنصف، وكان هذا قبل أن تفرض الصَّلوات الخمس، فلمَّا فرضت الخمس نسخت هذا كما نسخت الزَّكاة كلُّ صدقةٍ وصوم رمضان كل صوم.
          وفي «تفسير الجوزي»: كان الرَّجل يسهر طول الليل مخافة أن يُقصِّر فيما أُمر به من قيام ثلثي الليل أو نصفه وثلثه، فشقَّ عليهم ذلك فخفف الله عنهم بعد سنةٍ، ونسخ وجوب التقدير بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل:20] ؛ أي: صلُّوا ما تيسر من الصَّلاة ولو قدر حلب شاةٍ، ثمَّ نسخ وجوب قيام الليل بالصَّلوات الخمس بعد سنةٍ أخرى، فكان بين الوجوب والتَّخفيف سنةً، وبين الوجوب والنسخ بالكلِّية سنتان.
          ({نِصْفَهُ}) بدل من «قليلاً» وقلته بالنسبة إلى الكلِّ فيكون تخييراً بين ثلاث: من قيام النِّصف بتمامه، ومن قيام النَّاقص من النِّصف كالثلث كما هو مقتضى قوله تعالى: ({أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً}) ومن قيام الزَّائد على النِّصف كالثلثين، كما هو مقتضى قوله تعالى: ({أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}) فالضمير في «منه» و«عليه» للنِّصف وبهذا الاحتمال جزم الطَّبري، وأسند ابن أبي حاتم معناه عن عطاء الخراسانيُّ.
          ويحتمل أن يكون قوله: {نِصْفَهُ} بدلاً من الليل بدل البعض من الكلِّ، وقوله: {إِلَّا قَلِيلاً} استثناءٌ من النِّصف كأنَّه قال: قم أقلَّ من النِّصف كالثلث.
          والضمير في «منه» و«عليه» للنِّصف المستثنى منه القليل، وهو الأقلُّ من النِّصف فيكون تخييراً بين الأقلِّ من النِّصف كالثلث وبين الأقلِّ منه كالرُّبع، والأكثر منه كالنِّصف.
          أو الضَّمير في «منه» و«عليه» / للنصف فيكون تخييراً بين أمرين أن يقوم أقلَّ من النصف على البت، وأن يختار أحد الأمرين النُّقصان من النصف والزِّيادة عليه.
          ويحتمل أن يكون الاستثناء من أعداد الليل لا من أجزائه، فإنَّ الليل عام ولا عهد فيحمل على الاستغراق؛ أي: قم كلَّ ليلٍ إلَّا قليلاً من أعداده، فالتخيير يكون بين قيام النِّصف والناقص عنه والزائد عليه كما في الاحتمال الأوَّل.
          ({وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]) أي: اقرأه على تؤدة وتبيين حروف وإشباع الحركات بحيث يتمكَّن السَّامع من عدِّها، من قولهم: ثغر (2) رتل، ورتل _بفتح التاء وكسرها_: أي: ثنايا مفلجة متباعد بينها بعد استواء نباتها مثل نور الأقحوان، {تَرْتِيلاً} مصدر مؤكد لفعله الدَّال على إيجاب التَّرتيل.
          وقد أفاد أنَّه لا بدَّ للقارئ منه؛ ليتمكَّن هو ومن حضره من التَّأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يقع في الرَّجاء والخوف، فحينئذٍ يستنير القلبُ بنور معرفة الله تعالى، وينفتح عليه أسرار الكلام الإلهيِّ.
          رُوِي عن النَّبي صلعم أنَّه قال: ((يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة فيوقف في أوَّل درجة الجنة، ويقال: اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنت ترتِّل في الدُّنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آيةٍ تقرأها)).
          وقال الحسن: بيِّنه: إذا قرأتَه، وقال الضَّحاك: اقرأ حرفاً حرفاً.
          روى مسلمٌ من حديث حفصة ♦: أنَّ النَّبي صلعم كان يرتِّل السُّورة حتَّى تكون أطول من أطول منها.
          وعن مجاهدٍ: رتَّل بعضه على إثر بعضٍ على تُؤدة، وعن ابن عبَّاس ☻ : بيِّنه بياناً، وعنه: اقرأ على هينتك، وقال قتادة: تثبَّت فيه تثبيتاً، وقيل: فصِّله تفصيلاً ولا تعجل في قراءته.
          وقال أبو بكر ابن طاهر: تدبَّر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرَّك بالإقبال عليه. والكلُّ متقاربٌ.
          ({إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]) يعني: القرآن لما فيه من التَّكاليف الشَّاقة الثَّقيلة على النُّفوس المكلَّفة، سيما على رسول الله صلعم ، إذ كان عليه أن يتحمَّلها ويُحمِّلها أمته، فهي أثقل عليه وأنهض له.
          وهذا معنى قول الحسن: لثقل العمل. كما رواه ابنُ أبي حاتم عنه، والجملة على هذا اعتراضٌ يسهل التَّكليف / بالتَّهجد.
          ويدلُّ على أنَّ التَّكليف بقيام الليل من جملة التَّكاليف الثَّقيلة التي يشتمل عليها القرآن، فكأنَّه تعالى قال: لا تستثقل الأمر بالقيام فإنَّك سيُلقى إليك قولٌ ثقيلٌ وتكاليف شاقَّة يسهل عندها قيام اللَّيل، وإن كان لا يخلو من الثِّقل ومضادَّة الطبع، وإنَّما أمرتك بقيام الليل؛ لأن تستأنس به؛ لئلَّا يثقلَ عليك أمثاله.
          أو المراد من الثِّقل: الثِّقل في الميزان يوم القيامة، كما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضاً، أو ثقل نزوله وتلقِّيه؛ لقول عائشة ♦: ((رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشَّديد البرد فيفصم عنه))؛ أي: ينجلي «وإن جبينه ليرفضُّ»؛ أي: يترشَّح «عرقاً»، وقد قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
          وعلى هذا يجوزُ أن يكون صفة للمصدر؛ أي: إلقاءً ثقيلاً، أو المراد: أنَّه ثقيلٌ على الكفَّار والفجار، أو ثقيلٌ على المتأمِّل فيه؛ لافتقارهِ إلى مزيد تصفية للسِّر وتجريد للنَّظر أو المعنى أنَّه رصينٌ محكَمٌ ثابتٌ لرزانة لفظه ومتانة معناه، والجملةُ على هذه الأوجه الخمسة مستأنفةٌ للتَّعليل، فإنَّ التَّهجد يُعِدُّ للنَّفس ما تعالج به ثقله، كذا قال البيضاويُّ، لكن لا يظهر تمشِّي التَّعليل في بعضها، كما يظهر بالتأمل(3) .
          ({إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6]) أي: إنَّ النَّفس التي تنشأ وتنهضُ من مضجعها إلى العبادة، من نشأ من مكانه: إذا نهضَ، أو المعنى: إنَّ قيام اللَّيل، على أنَّ «النَّاشئة» مصدر من نشأ: إذا قام ونهض، على فاعلة كالعاقبة والعافية، أو المعنى أنَّ العبادة التي تنشأ بالليل؛ أي: تحدث فيها، والإنشاء بمعنى الإحداث.
          وقال أبو عُبيد في «الغريبين»: إنَّ كلَّ ما حدث باللَّيل وبدأ فهو ناشئٌ، وقد نشأ، وبعضهم خصَّه بما بعد العشاء.
          وقال السَّمرقندي: يعني: ساعات اللَّيل، وهي مأخوذةٌ من نشأت؛ أي: ابتدأت شيئاً بعد شيءٍ، فكأنَّه قال: إنَّ ساعات الليل النَّاشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم.
          ({هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} [المزمل:6]) أي: كلفةً أو ثباتَ قدمٍ، وقال السَّمرقنديُّ: يعني: أثقل على المصلِّي من ساعات النَّهار، فأخبر ╡ أنَّ الثَّواب على قدر الشِّدَّة.
          وقرأ أبو عَمرو وابن عامر: {وِطاء} بكسر الواو ومد الألف؛ أي: مواطأة؛ أي: من جهة موافقة قلبها لسانها إن فُسِّرت النَّاشئة بالنَّفس، أو من جهة موافقة (4) قلب القائم لسانه فيها إن فسِّرت بالسَّاعات، أو من جهة كونها موافقة لما يُراد من الخشوع والإخلاص إن فُسِّرت بقيام اللَّيل.
          وأخرج عبدُ بن حميد من طريق مجاهد قال: أشدُّ وطئاً أن يوافقَ سمعُك وبصرك وقلبُك بعضها بعضاً. /
          ({وَأَقْوَمُ قِيْلاً}) أسدُّ مقالاً وأثبت قراءةً؛ لحضور القلب وهدوءِ الأصوات.
          وعن الحسن: أبلغُ في الخير، وعن أنسٍ ☺: أنَّه قرأ ▬وأصوب قيلاً↨ فقيل له: يا أبا حمزة إنَّما هي أقوم فقال: إنَّه أقوم وأصوب وأهنأ وأحذر.
          وفي «تفسير النسفي»: {أَقْوَمُ قِيلاً} أصحُّ قولاً، وأشدُّ استقامةً، وصواباً لفراغ القلب. وقيل: أعجلُ إجابة للدُّعاء(5) .
          ({إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} [المزمل:7]) تصرُّفاً وتقلباً في مهمَّاتك وشواغلكَ واشتغالاً بها، فعليك بالتَّهجد فإنَّ مناجاة الحقِّ تستدعي فراغاً، وقال السَّمرقنديُّ: {سَبْحاً} فراغاً طويلاً تقضي حوائجك فيه، ففرغ نفسك لصلاة الليل، وعن السُّدي: {سَبْحاً طَوِيلاً} أي: تطوعاً كثيراً، كأنَّه جعله من السُّبحة وهي النَّافلة.
          وقرئ: ▬سبخاً↨ بالخاء المعجمة فهي استعارةٌ، من سبخ الصُّوف، وهو نقشه ونشرُ أجزائه؛ لانتشار الهمِّ وتفرُّق القلب بالشَّواغل فكلَّفه بقيام الليل؛ لأنَّه أعون على المواطأة وأسدُّ للقراءة؛ لهدوء الرَّجل وخفوت الصَّوت، وأنَّه أجمع للقلب وأهمُّ لنشر الهمِّ من النَّهار؛ لأنَّه وقت تفرُّق الهموم وتوزُّع الخواطر، والتَّقلب في حوائج المعاش والمعاد.
          (وَقَوْلِهِ) بالجر عطفاً على مدخول الباب أيضاً ({عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20]) أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام اللَّيل، وقيل: الضَّمير المنصوب يعود إلى مصدر يقدَّر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] ؛ أي: لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلَّا الله.
          والمعنى: أنَّ الله تعالى علم أن لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط السَّاعات ولا يتأتَّى لكم حسابها بالتَّعديل والتَّسوية إلَّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاقٌّ عليكم، ثمَّ هو مرتبطٌ بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل:20] استعار الأدنى للأقلِّ؛ لأنَّ الأقرب إلى الشَّيء أقلُّ بعداً منه، وقرأ ابنُ كثير والكوفيُّون: {ونصفَه وثلثَه} بالنصب عطفاً على أدنى {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] ويقوم ذلك جماعة من أصحابك.
          ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}) رخَّص لكم في ترك القيام المقدَّر ورفع التَّبعة فيه ({فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}) أي: فصلُّوا ما تيسَّر عليكم من صلاة اللَّيل عبَّر عن الصَّلاة بالقراءة؛ لأنَّها بعض أركانها، كما عبَّر عنها بسائر / أركانها من القيام والرُّكوع والسجود، وقد سبق أنَّه قيل: كان التَّهجد واجباً على التَّخيير المذكور فعَسُر عليهم القيام به، فنسخ بقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} ثمَّ نسخ هذا بالصَّلوات الخمس؛ لما ورد من الأحاديث ما يدلُّ على أن لا واجبَ من الصَّلاة إلَّا الخمس.
          منها: ما رُوي أنَّ الزِّيادة على الصَّلوات الخمس تطوُّع، ولأنَّه لما بيَّن مواقيت الصَّلاة بمثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] الآية، وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] الآية، وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] الآية، سقط فرضية ما تيسَّر من الصَّلاة.
          وقيل: المراد: قراءة القرآن بعينها ومدارسته في غير حال الصَّلاة ليحصل الأمن من النِّسيان والفوز برضى الملك المنَّان، وليقف القارئ بقراءته على إعجازه وما فيه من دَلائل التَّوحيد وبعث الرَّسول وأحوال الآخرة، وإذا قرأه بحيث حصل له هذه الأمور لا يجب عليه حفظه، فإنَّ حفظه من القُرَب المستحبَّة فالأمر بقراءته خارج الصَّلاة.
          قيل: للوجوب، وقيل: للاستحباب، وقيل: قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل:20] هو على حقيقة القراءة في صلاة اللَّيل.
          وقيل: في كلِّ صلاةٍ، واختلف العلماء في قدر ما يلزمه من القراءة في الصَّلاة، فقال مالك والشَّافعي: فاتحة الكتاب لا يجوز العدولُ عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة ☼ بآيةٍ واحدة من آي القرآن أيَّةَ آيةٍ كانت، وعنه ثلاث آياتٍ؛ لأنَّها أقلُّ سورةٍ.
          فائدة: قيل: من قرأ مائة آية في ليلةٍ لم يحاجِّه القرآن، وقيل: من قرأ مائة آيةٍ كتب من القانتين، وقيل: خمسين آيةً، ذكره العينيُّ.
          ({عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}) لا يقدرون على قيام الليل استئناف يبيِّن حكمة أُخرى مقتضية للتَّرخيص والتَّخفيف، ولذلك كرَّر الحكم بقوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنه} مرتَّباً عليه بالفاء فيما بعد.
          ({وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ}) يسافرون فيها ({يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}) / يعني: يسافرون للتِّجارة وتحصيلِ المعاش.
          ({وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}) قد سوَّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين في سبيل الله والمكتسبين للمال الحلالِ للإنفاق على نفسهِ وعياله والإحسان إلى ذوي الحاجات، حيث جمعها في قرنٍ واحدٍ فدلَّ على أنَّ التِّجارة بمنزلة الجهاد.
          وقد رُوِي عن النَّبي صلعم : ((ما من جالبٍ يجلبُ طعاماً من بلدٍ إلى بلدٍ فيبيعه بسعرِ يومه إلَّا كانت منزلته عند الله منزلة الشُّهداء)) ثمَّ قرأ رسول الله صلعم : (({وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20])).
          ({فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}) أي: من القرآن، قيل: في صلاة المغرب والعشاء ({وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}) المفروضة ({وَآتُوا الزَّكَاةَ}) الواجبة.
          وقيل: زكاة الفطر؛ لأنَّه لم يكن بمكَّة زكاة، وإنَّما وجبت بعد ذلك ومن فسَّرها بالزَّكاة الواجبة جعل آخر السُّورة مدنيًّا.
          ({وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل:20]) يريد به الأمر بسائر الإنفاقات في سبيل البرِّ والخير من الصَّدقات المستحبة، وقيل: تصدَّقوا بنيَّةٍ خالصةٍ من مال حلال أو بأداء الزَّكاة على أحسن وجهٍ، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء، ومراعاة النِّية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى أحوج الفقراء من الصَّالحين.
          ووجه هذا التَّفسير: أنَّ قوله تعالى: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} أمرٌ بمجرَّد إعطائها على أيِّ وجهٍ كان.
          وقوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:18] ليس كذلك، بل هو الأمر بالإعطاء المقيَّد بكونه حسناً، وتسمية الإنفاق ابتغاء لوجه الله إقراضاً استعارةٌ تشبيهاً له بالإقراض من حيث أنَّ ما أنفقه يعودُ إليه مع زيادةٍ، وفيه تأكيدٌ للجزاء، ثمَّ رغَّب الله تعالى في الإنفاق بوعد العوض فقال:
          ({وَمَا تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [المزمل:20]) يعني: ما تعملونه من الأعمال الصَّالحة وتتصدَّقون به بنيَّةٍ خالصةٍ ({تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}) يعني: تجدون ثوابه في الآخرة، وقوله: ({هُوَ}) فصل بين المفعولين، أحدهما: الضمير المنصوب، والثاني قوله: ({خَيْراً}) وجاز ذلك، وإن لم يقعْ بين معرفتين؛ لأنَّ أفعلَ من [أشبه] كالمعرفة في امتناع دخول حرف التَّعريف عليه ({وَأَعْظَمَ أَجْراً}) من الذي تؤخِّرونه إلى الوصية عند الموت، / أو من متاع الدُّنيا، فعلى هذا يكون التَّفضيل على سبيل الفرض والتَّقدير ({وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ}) في مجامع أحوالكم فإنَّ الإنسان لا يخلو عن تفريطٍ ({إنَّ اللهَ غَفُورٌ}) لمن تاب ({رَحِيمٌ} [المزمل:20]) لمن استغفر.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ ) وفي رواية: <قال أبو عبد الله > أي: البخاريُّ نفسه ـ: <قال ابن عباس ☻ > (نَشَأَ) مهموزاً، معناه: (قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ) أي: بلسان الحبشة. وهذا التَّعليق وصله عبد بن حُميد الكجي في «تفسيره» بسندٍ صحيحٍ عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس ☻ : {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال: هو بكلام الحبشة، نشأ: قام.
          وأنبأنا عبد الملك بن عمرو عن رافع بن عمرو عن ابن أبي مُليكة: سئل ابن عباس ☻ عن قوله تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} فقال: إذا قمتَ في الليل فقد نشأت. وفي تفسيره أيضاً: عن أبي ميسرة قال: هو كلام الحبشة نشأ: قام. وعن أبي مالك: قيام اللَّيل بلسان الحبشة: ناشئة، وعن قتادة والحسن وأبي مجلز: كلُّ شيء بعد العشاء ناشئة.
          وقال مجاهد: إذا قمتَ من اللَّيل فهو ناشئةٌ، وفي رواية: أيُّ ساعة تهجَّد فيها، وقال معاوية بن قرَّة: هي قيام اللَّيل، وعن عاصم: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} مهموزة الياء.
          وفي «المجاز» لأبي عَبيدة: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} آناء الليل ناشئة بعد ناشئة، وفي «المنتهى» لأبي المعاني: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6] أوَّل ساعاته، ويقال: أوَّل ما ينشأ من الليل من الطَّاعات فهو النَّشيئة، وفي «المُحكم»: النَّاشئة: أوَّل النَّهار والليل، وقيل: النَّاشئة إذا نمت من أوَّل اللَّيل نومة ثمَّ قمت.
          وفي «كتاب الهرويِّ»: كلُّ ما حدث باللَّيل وبدأ فهو ناشئٌ، وقد نشأ، الجمع: ناشئة.
          واختلف العلماء هل في القرآن شيءٌ بغير العربيَّة: فذهب بعضُهم إلى أنَّ غير العربيَّة موجودٌ في القرآن كسجيل وفردوس وناشئة.
          وذهب الجمهورُ إلى أنَّه ليس في القرآن شيءٌ بغير العربية، وقالوا: ما وردَ من ذلك فهو من توافق اللُّغتين فعلى هذا لفظ {نَاشِئَةَ} إمَّا مصدر على وزن فاعلة كعاقبة، من نشأ، إذا قام، أو هو اسمُ فاعلٍ صفة لمحذوف تقديره: النَّفس الناشئة، كما مرَّ.
          (وِطَاءً) بكسر الواو والمد، قال المؤلِّف ☼ معناه: (مُوَاطَأَةَ / الْقُرْآنِ) بالإضافة، وفي رواية: <مواطأة للقرآن>؛ أي: لقراءة القرآن، أو لمقتضى القرآن خشوعاً لأجل حضور القلب، واجتماع الحواس.
          وقوله: (أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ) كأنَّه تفسيرٌ لكونه أشد مواطأةً للقرآن، وهذا أيضاً وصله عبد بن حُميد من طريق مجاهد قال: أشدُّ وطاء؛ أي: يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضاً، وقد مرَّ الكلام فيه.
          ثمَّ ذكر ما يؤيد هذا التَّفسير، فقال: ({لِيُوَاطِؤُوا}) في قوله تعالى في سورة التوبة: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِؤُوا} [التوبة:37] معناه (لِيُوَافِقُوا) وقد وصله الطَّبري عن ابن عبَّاس ☻ ، لكن بلفظ: «ليشابهوا».


[1] في هامش الأصل: والمرط: كساء من صوف يؤتزر به، وقيل: الجلباب، وقيل: الملحفة. منه.
[2] في هامش الأصل: يقال: ثغر رتل، إذا كان بين الثنايا افتراق قليل. منه.
[3] في هامش الأصل: والمراد من البعض هو الثقل في الميزان والثقل على الكفار والفجار. منه.
[4] من قوله: ((قلبها... إلى قوله: موافقة)): ليست في (خ).
[5] من قوله: ((وأشد استقامة... إلى قوله: للدعاء)): ليست في (خ).