نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: كان النبي إذا قام من الليل يتهجد

          1120- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المديني (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو الثَّوري (قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ) المكِّي الأحول خال عبد الله بن أبي نجَيح، وأبو مسلم يقال: اسمه: عبد الله (عَنْ طَاوُسٍ) هو: ابن كيسان، أنَّه (سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ) وفي رواية مالك عن أبي الزُّبير عن طاوس: ((إذا قام إلى الصَّلاة من جوف اللَّيل يتهجَّد)) وظاهر الكلام أنَّه كان يدعو بهذا الدُّعاء أوَّل ما يقوم إلى الصَّلاة، ويخلص الثَّناء على الله ╡ بما هو أهله، والإقرار بوعده ووعيده.
          وفي رواية ابن عبَّاس ☻ حين بات عند ميمونة ♦: أنَّه صلعم لمَّا استيقظ تلا العشر الآيات من أواخر آل عمران، فيحتمل تعدُّد القصَّة أو سكت هو عنه في هذه الرِّواية أو نسيه النَّاقل، والله أعلم.
          وساقه ابن خزيمة من طريق قيس بن سعد، عن طاوس، عن ابن عبَّاس ☻ قال: كان رسول الله صلعم إذا قام للتهجُّد قال بعد ما يكبِّر: ((اللَّهم لك الحمد... إلى آخره)) وهذا يقتضي أن يقوله بعد التَّكبير.
          وسيأتي في «الدَّعوات» [خ¦6316] من طريق كُريب، عن ابن عبَّاس ☻ في حديث مبيته عند النَّبي صلعم في بيت ميمونة ♦ وفي آخره: ((وكان في دعائه: اللَّهم اجعل في قلبي نوراً...)) الحديث، وهذا قاله لمَّا أراد أن يخرج إلى صلاة الصُّبح كما بيَّنه مسلم من رواية علي بن عبد الله بن عبَّاس، عن أبيه ☻ .
          (قَالَ) في موضع نصب على أنَّه خبر «كان»؛ أي: كان صلعم عند قيامه من اللَّيل متهجِّداً يقول. وقال الطِّيبي: الظَّاهر أن «قال» جواب «إذا» والجملة الشرطيَّة خبر «كان». /
          (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ) وفي بعض النُّسخ سقط قوله: «أنت» ولكنَّه مقدَّر؛ لأنَّ قيِّم السَّماوات مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ مذكور أو مقدَّر.
          وفي رواية أبي الزُّبير المذكورة: ((أنت قيام السَّماوات والأرض)) والقيِّم والقيَّام والقيوُّم بمعنى واحد وهو الدَّائم القيام بتدبير الخلق، المُعطي له ما به قوامه، أو القائم بنفسه المقيم لغيره.
          وقال الزَّمخشري: وقرئ القَيَّام والقَيِّم، وقيل: قرأ بهما عمر بن الخطَّاب ☺، وقال ابن عبَّاس ☻ : القيُّوم: الذي لا يزول. وقيل: هو القائم على كلِّ نفس، ومعناه: مدبِّر أمرها، وقيل: قيَّام على المبالغة من قام بالشَّيء إذا هيَّأ له ما يحتاج إليه. وقيل: قيوم السَّماوات والأرض خالقهما وممسكهما أن تزولا، وقرأ علقمة: الحيُّ القيم، وأصله قيُّوم على وزن فَيعِل فأعِلَّ إعلال صيب.
          وقال ابنُ الأنباري في كتابه «الزَّاهر»: أصل القيوُّم القيووم، وأصل القيَّام القيوام. وقال قتادة: معنى القيِّم: القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم. وقال الكلبي: هو الذي لا بديل له.
          وقال أبو عُبيدة: القيُّوم القائم على الأشياء، وقيل: القيم معناه: القائم بأمور الخلق ومدبِّرهم ومدبِّر العالم في جميع أحواله، ومنه قيِّم الطفل، والقيُّوم هو القائم بنفسه مطلقاً، ويقوم به كل موجود حتَّى لا يتصوَّر وجودُ شيء، ولا دوام وجوده إلَّا به.
          وقال التُّوربشتي: والمعنى: أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به، واشتملت عليه تُؤتي كلاًّ ما به قوامه، وتقوم على كلِّ شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك، وعبَّر بكلمة «من» في قوله: «ومن فيهنَّ» دون «ما» تغليباً للعقلاء على غيرهم.
          (وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ) وقد سقط في رواية لفظ «أنت» وهو مقدر لما عرفت (نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي: منورها، وقد قُرئ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] على صيغة الماضي من التَّنوير، ونصب «السَّماوات والأرض»، وقيل: معناه ذو نور السَّماوات والأرض؛ يعني: إنَّ كلَّ شيءٍ استنار منها فبقدرتك وجودك، والأجرام النيِّرة بدائع قدرتك، والعقل والحواس خلقك وعطيَّتك، وقيل: سُمِّي بالنُّور لما اختصَّ به من إشراق الجلال وسبحات العظمة التي تضمحلُّ بها الأنوار، ولما هيَّأ للعالمين من النُّور ليهتدوا به في عالم الخلق، فهذا الاسم لا استحقاق لغيره فيه، / بل هو المستحقُّ له المدعو به: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].
          وقال ابن عبَّاس ☻ : هادي أهلهما، وقيل: منزَّه عن كلِّ عيبٍ، ومبرَّأ من كلِّ ريبة، يقال: هو نور؛ أي: مبرَّأ من كلِّ عيب، وقيل: هو اسم مدح يقال: فلان نور البلد، وشمس الزَّمان. وقال أبو العالية: مزين السَّماوات بالشَّمس والقمر والنُّجوم، ومزيِّن الأرض بالأنبياء والعلماء والأولياء.
          وقال ابن بطَّال: معناه: أنت نور السَّماوات والأرض ومن فيهنَّ؛ أي: بنورك يهتدي من في السَّماوات والأرض.
          (وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشميهني: <لك ملك السَّماوات> والأوَّل أشبه بالسِّياق (وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ) أي: المتحقِّق وجوده وكل شيء صحَّ وجوده وتحقَّق فهو حقٌّ، ومنه قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] أي: الكائنة حقًّا بغير شكٍّ.
          قال القرطبيُّ: وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصيَّة، ولا ينبغي لغيره إذ وجوده بذاته لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، وما عداه ممَّا يقال فيه ذلك فهو بخلافه.
          وقال ابن التِّين: يحتملُ أن يكون معناه: أنت الحقُّ بالنِّسبة إلى من يدَّعي فيه أنَّه إله، أو بمعنى أنَّ من سمَّاك إلهاً فقد قال الحق.
          وقال السُّهيلي في «الرَّوض الأنف»: الحقُّ من لا يجوز عليه الزَّوال وهو القديم الذي عدمه محال، ولذلك قال صلعم : ((أنت الحقُّ)) بالألف واللام.
          (وَوَعْدُكَ الْحَقُّ) أي: الثَّابت المتحقِّق لا يدخله خُلْف، والوعد يطلق ويراد به الخير والشَّر كلاهما، والخير أو الشرُّ خاصَّة، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة:268].
          وقيل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم:22] أي: وعد الجنَّة من أطاعه، ووعد النَّار من كفر به. ويحتمل أن يريد أنَّ وعده حق بمعنى أنَّه وعد بالحقِّ بالبعث والحشر والثَّواب والعقاب إنكاراً لقول من أنكر وعده بذلك، وكذب الرُّسل بما بلَّغوه من وعده ووعيده.
          وإنَّما عرَّف الحقُّ في الموضعين وهما «أنت الحقُّ»، و«وعدك الحقُّ»، ونكَّر في البواقي؛ لأنَّ المسافة بين المعرف باللَّام الجنسيَّة والنَّكرة قريبة، بل صرَّحوا بأنَّ مؤدَّاهما واحدٌ لا فرق بينهما إلَّا بأنَّ في المعرَّف إشارة إلى أنَّ الماهيَّة التي دخل عليها اللام معلومة للسَّامع، وفي النَّكرة لا إشارة إليه.
          وقال الطِّيبي: عرَّفهما للحصر؛ لأنَّ الله هو الحقُّ الثَّابت الباقي، / وما سواه في معرض الزَّوال. قال لبيد:
ألَا كلُّ شيءٍ مَا خَلا اللهَ باطِل
          وكذا وعده مختصٌّ بالإنجاز دون وعد غيره، والتَّنكير في البواقي للتَّعظيم. وقال السُّهيلي في «الرَّوض الأنف»: التَّعريف للدَّلالة على أنَّه المستحقُّ لهذا الاسم بالحقيقة، إذ هو مقتضى هذه الأداة، وكذا في وعدك الحق لأنَّ وعده كلامه، وكلامه قديم، وليس بمخلوق فيَبِيْد، ونكِّرت البواقي؛ لأنها أمور محدثة، والمُحدَثُ لا يجب له البقاء من جهة ذاته، وبقاء ما يدوم منه عُلِم بالخبر الصَّادق لا من جهة استحالة فنائه.
          وتعقِّب بأنَّه يردُّ عليه قوله في هذا الحديث: «وقولك حقٌّ» مع أنَّ قوله: كلامه القديم. نعم في «صحيح مسلم»: ((وقولك الحق)) بالتَّعريف فيه أيضاً.
          (وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ) اللِّقاء هو البعث أو رؤية الله تعالى، وقيل: الموت، وفيه ضعف، وقد أبطله النَّووي. فإن قيل: إنَّ ذلك داخل تحت الوعد فما وجه ذكره؟
          فالجواب: أنَّه تخصيصٌ بعد التَّعميم، كما أنَّ ذكر القول تعميم بعد التَّخصيص.
          (وَقَوْلُكَ حَقٌّ) أي: مدلوله ثابت. فإن قيل: القول يوصف بالصِّدق والكذب يقال: قولٌ صدق أو كذب، ولهذا قيل: الصِّدق هو بالنَّظر إلى القول المطابق للواقع، والحقُّ هو بالنَّظر إلى الواقع المطابق للقول.
          فالجواب: أنَّه قد يقال أيضاً: قول حقٌّ؛ أي: ثابتٌ وهما متلازمان.
          (وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ) أي: كلٌّ منهما موجودٌ، وسيأتي البحث فيه في «بدء الخلق» إن شاء الله تعالى [خ¦3240] [خ¦3258].
          وقال ابن التِّين: أي: أنَّ الخبر عنهما بذلك حتَّى لا يدخله كذبٌ.
          (وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلعم حَقٌّ) وإنَّما خصَّ محمداً صلعم من بين النبيِّين، وإن كان داخلاً فيهم تعظيماً له وعطفه عليهم إيذاناً بالتَّغاير، وأنَّه فائق عليهم بأوصاف مختصَّة به، فإن تغيُّر الوصف ينزل منزلة تغيُّر الذَّات، ثمَّ جرَّده عن ذاته كأنَّه غيره ووجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوَّته كما في التشهُّد.
          (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أي: يوم القيامة، وأصل السَّاعة: القطعة من الزَّمان، ثمَّ أطلق على يوم القيامة كأنَّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، ثمَّ تكرير الحمد للاهتمام بشأنه، وليناط به كلَّ مرَّة معنى آخر، وتقديم الجار والمجرور للتَّخصيص، وكأنَّه صلعم خصَّ الحمد بالله تعالى فقيل: لم ذلك التَّخصيص؟ فقال: لأنَّك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك، وإطلاق اسم الحقِّ على ما ذكر من الأمور معناه: أنَّه لا بدَّ من كونها وأنَّها ممَّا يجب أن يُصدَّق بها، وتكرار لفظ «حق» للمبالغة في التَّأكيد.
          ثمَّ إنَّه صلعم لمَّا نظر إلى المقام الإلهي ومرتبة الرُّبوبيَّة عظم شأنه، وفخم منزلته، ولمَّا رجع إلى مقام العبوديَّة ونظر إلى افتقار نفسه / نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار، فقال:
          (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) أي: انقدت وخضعت لأمرك ونهيك، واستسلمت لجميع ما أمرت به، ونهيت عنه (وَبِكَ آمَنْتُ) أي: صدَّقت بك وبما أنزلتَ من أخبارٍ وأمرٍ ونهي، وظاهره أنَّ الإيمان ليس بحقيقة الإسلام، وإنَّما الإيمان التَّصديق.
          قال القاضي أبو بكر: الإيمان المعرفة بالله، والأوَّل أشهر في كلام العرب، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: بمصدِّق إلَّا أنَّ الإسلام إذا كان بمعنى الانقياد والطَّاعة فقد ينقاد المكلَّف بالإيمان فيكون مؤمناً مسلماً، وقد يكون مصدِّقاً في بعض الأحوال دون بعض، فيكون مسلماً لا مؤمناً.
          وقال الخطَّابي: المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال دون البعض، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكلُّ مؤمن مسلم، وليس كل مسلم بمؤمن. وقد مرَّ البحث فيه مستوفى في كتاب «الإيمان» [خ¦8].
          (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أي: فوَّضت الأمر إليك قاطعاً للنَّظر عن الأسباب العادية، ويقال: أي: تبرَّأت من الحول والقوَّة، وصرفت أمري إليك وأيقنت أنَّه لن يصيبني إلَّا ما كتبت لي علي، ففوضتُ أمري إليك، ونعم المفوض إليه أنت. قال الفرَّاء: الوكيل: الكافي.
          (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أي: رجعت إليك في تدبير أمري، والإنابة: الرُّجوع؛ أي: رجعت إليك مقبلاً بالقلب عليك أو معناه: رجعت إلى عبادتك (وَبِكَ خَاصَمْتُ) أي: بما أعطيتني (1) من البرهان والسِّنان خاصمت المعاند وقمعته بالحجَّة والسَّيف.
          (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) أي: كل من جحد الحق أو إلى قبول ما أرسلتني حاكمته إليك، وجعلتك الحاكم بيني وبينه لا غيرك ممَّا كانت تحاكم إليه الجاهلية من صنمٍ وكاهنٍ ونارٍ ونحو ذلك، والمحاكمة: رفع القضيَّة إلى الحاكمِ، وقيل: ظاهرهُ أن لا يحاكمهم إلَّا الله، ولا يرضى إلَّا بحكمه، قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] ثمَّ من قوله: «لك أسلمت... إلى قوله: وإليك حاكمت»، قدَّم صِلات الأفعال المذكورة فيه للإشعار بالتَّخصيص، وإفادة الحصر وكذلك في قوله: «ولك الحمد» في أربعة مواضع، فافهم.
          (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) أي: ما فعلته قبل هذا الوقت (وَمَا أَخَّرْتُ) عنه (وَمَا أَسْرَرْتُ) أي: أخفيتُ (وَمَا أَعْلَنْتُ) أي: أظهرت، أو المعنى / ما حدَّثت به نفسي وما تحرَّك به لساني، وزاد في «التَّوحيد» من طريق ابن جُريج عن سليمان [خ¦7442]: ((وما أنت أعلم به مني)) وهو من العام بعد الخاص، وإنَّما قال ذلك صلعم مع أنَّه مغفور له لوجهين:
          أحدهما: أنَّه قال ذلك للتَّواضع وهضم النَّفس، والإجلال لله تعالى، والتَّعظيم له ╡.
          والثَّاني: أنَّه قال ذلك (2) تعليماً لأمَّته ليقتدوا به في أصل الدُّعاء والخضوع، وحسن التضرُّع، والرغبة، والرهبة، والمغفرة هي تغطية الذَّنب وكل ما غطَّى فقد غَفَر، ومنه المغفر، وقد يقال: إنَّ استغفار الأنبياء عليهم لما يكون من غفلة تعتري البشر من حيث إنَّه بشر، والله أعلم.
          (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) قال ابن التِّين: أي: أنت الأوَّل وأنت الآخر، فعلى هذا يكون كلاهما على صيغة اسم المفعول. وقال ابن بطَّال: يعني أنَّه ╧(3) المقدَّم في البعث في الآخرة، المؤخَّر في البعث إلى النَّاس في الدُّنيا، كما قال صلعم : ((نحن الآخرون السَّابقون)) فعلى هذا يكون كلاهما بلفظ اسم الفاعل.
          (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ _أَوْ: لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ_) شكٌّ من الرَّاوي، وزاد ابن جريج في «الدَّعوات» قبل قوله: ((لا إله إلا أنت)): ((أنتَ إلهي)) [خ¦7385].
          وقال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم، إذ لفظ «القيم» إشارة إلى أنَّ وجود الجوهر وقوامه منه، و«النُّور» إلى أنَّ الأعراض منه، و«الملك» إلى أنَّه حاكم عليها إيجاداً وإعداماً يفعل ما يشاء، وكل ذلك من نعم الله على عباده، فلهذا قرن كلاً منها بالحمد، وخصَّص الحمد به، ثمَّ قوله: ((أنت الحق)) إشارة إلى المبدأ، و«القول» ونحوه إلى المعاش، و«الساعة» إلى المعاد، وفيه إشارة إلى النبوَّة وإلى الجزاء ثواباً وعقاباً، وفيه وجوب الإسلام والإيمان والتوكُّل والإنابة، والتضرُّع إلى الله تعالى والاستغفار وغيره، انتهى.
          وفيه زيادة معرفة النَّبي صلعم بعظمة ربِّه وعظمة قدرته، ومواظبته على الذِّكر والدُّعاء والثَّناء على ربِّه، والاعتراف لله بحقوقه، والإقرار بصدقِ وعدهِ ووعيده.
          وفيه: استحباب تقديم الثَّناء على المسألة عند كلِّ مطلوب اقتداء به صلعم .
          (قَالَ سُفْيَانُ) هو: ابن عيينة المذكور في سند الحديث، كما بيَّنه أبو نُعيم، قيل: هذا موصول بالإسناد الأوَّل، ووضع المزِّي على هذا علامة التَّعليق، لكن قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ: ووهم من زعم أنَّه معلَّق (وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ) هو كنية عبد الكريم بن أبي المخارق البصري المعلِّم، وأبو المخارق اسمه: قيسر، مات سنة سبع وعشرين ومئة.
          (وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) / قال الحافظ المنذري: قد استشهد البخاري بابن أبي المخارق، هذا في باب «التهجُّد باللَّيل» فقال: وقال سفيان _يعني: ابن عيينة_: وزاد عبد الكريم أبو أميَّة: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
          وقال المقدسي في كتاب «رجال الصَّحيحين» فيمن اسمه: عبد الكريم بن أبي المخارق سمع مجاهداً في الحجِّ روى عنه سفيان بن عيينة، وهو حديث واحد عند الشَّيخين عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي ☺ قال: أمرني رسول الله صلعم أن أقومَ على بُدْنِهِ، وأن أقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أُعطي الجازر منها، وقال: نحن نُعطيه من عندنا، فهذا كما رأيت كلام المنذري يقوِّي ما مال إليه المزِّي من أنَّه معلَّق وأنَّ عبد الكريم استشهد به البخاري، وكلام المقدسي يصرِّح بأنَّه من رجال البخاري.
          قال العيني: وبهذا يردُّ ما قاله بعضهم يريد الحافظ العسقلاني، وليس لعبد الكريم هذا في «صحيح البخاري» إلَّا هذا الموضع، ولم يقصد البخاري التَّخريج له، فلأجل ذلك لا يعدُّونه في رجاله، وإنَّما وقعت عنه زيادة في الخبر غير مقصودة لذاتها، والله أعلم.
          (قَالَ سُفْيَانُ) هو ابن عُيينة أيضاً (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ) الأحول المذكور في السند (سَمِعْتُ) وفي رواية: <سمعتُه> (مِنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وهذا موصول أيضاً وأراد سفيان بذلك بيان سماع سليمان له من طاوس؛ لأنه أورده أولاً بالعنعنة، وصرح بذلك أيضاً الحمُيدي في «مسنده» عن سفيان قال:حدَّثنا سليمان الأحول خال ابن أبي نَجيح: سمعتُ طاوساً... فذكر الحديث. وفي رواية أبي ذرٍّ وحده هنا: <قال عليُّ بن خَشْرَم: قال سفيان...> إلى آخره. وخَشْرَم: بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وفتح الراء وآخره ميم.
          قال الحافظُ العسقلانيُّ: ولعلَّ هذه الزيادة عن الفربري فإن علي بن خشرم لم يذكروه في شيوخ البخاري، وأما الفربري فقد سمع من علي بن خَشْرم، كما سيأتي في «أحاديث الأنبياء» في قصة موسى والخضر ♂، فكأنَّ هذا الحديث أيضاً كان عنده عالياً عن عليِّ بن خشرم عن سفيان فذكره لأجل العلو [خ¦3402]، والله أعلم.


[1] في هامش الأصل: أي: بما آتيتني من البراهين والحجج خاصمت من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرتك قاتلت. منه.
[2] من قوله: ((للتواضع وهضم... إلى قوله: أنه قال ذلك)): ليس في (خ).
[3] في هامش الأصل: يعني أنه صلعم أخر في البعث إلى الناس عن غيره ثم قُدِّم عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضل به على سائر الأنبياء ‰ فسبق بذلك الرسل. منه.