نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل قيام الليل

          ░2▒ (بابُ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ) أخرج فيه مسلم من حديث أبي هريرة ☺: «أفضل الصَّلاة بعد الفريضة / صلاة الليل» وهذا يدلُّ على أنَّها أفضل من ركعتي الفجر، وقواه النَّووي في «الروضة»، لكن الحديث اختُلف في وصله وإرساله، وفي رفعه ووقفه، ومن ثمَّة لم يخرجه المؤلِّف، والمعتمد تفضيل ركعتي الفجر على غيرها ما عدا الوتر؛ لحديث عائشة ♦ المرويُّ في «الصحيحين»: «لم يكن النَّبي صلعم على شيءٍ من النَّوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر» [خ¦1169].
          وحديث مسلم: ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدُّنيا وما فيها)) وهما أفضلُ من ركعتين في جوف الليل، وحملوا حديث أبي هريرة ☺ السَّابق على أنَّ النَّفل المطلق المفعول في اللَّيل أفضل من المطلق المفعول في النَّهار.
          وقد مدحَ الله تعالى المتهجِّدين في آيات كثيرةٍ كقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] وذلك تفسيرٌ لقوله تعالى(1) : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قد أحسنوا أعمالهم، و{مَا} مزيدة؛ أي: يهجعون في طائفةٍ من الليل فيكون {قَلِيلاً} ظرفاً أو يهجعون هجوعاً فتكون {قَلِيلاً} صفة للمصدر أو مصدريَّة أو موصولة؛ أي: في قليلٍ من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية؛ لأنَّ ما بعدها لا يعمل فيها قبلها، وفيه مبالغاتٌ لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل والليل الذي هو وقت السُّبات والهجوع الذي هو الغِرار؛ أي: القليل من النَّوم وزيادة كلمة «ما»: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] أي: أنَّهم مع قلَّة هجوعهم وكثرة تهجُّدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنَّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
          وفي بناء الفعل على الضَّمير إشعارٌ بأنَّهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله وخشيتهم منه، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] ؛ أي: في الصَّلاة وتخصيص البيتوتة؛ لأنَّ العبادة بالليل أحمز وأبعد من الرِّياء وتأخير القيام للروي، وهو جمعُ قائم أو مصدر أجري مجراه، وكقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] ترتفعُ وتنتحي {عَنِ الْمَضَاجِعِ} الفرش ومواضع النَّوم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} داعين إيَّاه {خَوْفاً} من سخطه {وَطَمَعاً} [السجدة:16] في رحمته.
          وعن النَّبي صلعم في تفسيرها: ((قيام العبد من الليل))، وعنه ╧: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء منادياً ينادي بصوتٍ يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثمَّ يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليلٌ، ثمَّ يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء، فيقومون / وهم قليلٌ فيسرحون جميعاً إلى الجنَّة، ثمَّ يحاسب سائر النَّاس)).
          وقيل: كان ناسٌ من الصَّحابة ♥ يصلُّون من المغرب إلى العشاء، فنزلت فيهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] في وجوه الخير {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] ممَّا تقرُّ به عيونهم، وعنه صلعم : ((يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصَّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ، بَلْهَ (2) ما اطَّلعتم عليه، اقرؤا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ})) [خ¦3244].
          وقرئ في الشَّواذ: ▬من قرَّات أعينٍ↨ لاختلاف أنواعها، والعلم بمعنى: المعرفة، و«ما» موصولة أو استفهامية معلق عنها الفعل {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] أي: جزوا جزاءً أو أخفى للجزاء فإنَّ إخفائه لعلوِّ شأنه، وقيل: هذا القوم أَخْفَوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم فمن عرفَ فضيلة قيام اللَّيل بسماع الآيات والأخبار والآثار الواردة فيه، واستحكم رجاؤه وشوقه إلى ثوابه ولذَّة مناجاته بربِّه وخلوته به هاجه الشَّوق وطردَ عنه النَّوم.
          قال بعضُ الكبراء من القدماء: أوحى الله تعالى إلى بعض الصِّديقين إنَّ لي عباداً يحبُّوني وأحبُّهم، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم، ويذكرونَنِي وأذكرهم، فإن حذوتَ طُرقهم أحببتُكَ، قال: يا رب وما علاماتهم؟ قال: يحنُّون إلى غروب الشَّمس، كما تحنُّ الطَّير إلى أوكارها، فإذا جنَّهم الليل نصبوا إليَّ أقدامهم، وافترشوا إليَّ وجوههم ناجوني بكلامِي، فبين صارخٍ وباكٍ ومتأوِّهٍ وشاكٍ، يتحمَّلون من أجلي ويَشتكون من حبي، أوَّل ما أُعطيهم أن أقذفَ من نوري في قلوبهم فيخبرون عنِّي كما أُخبر عنهم. ذكره الإمام القسطلانيُّ ☼ ، اللَّهمَّ إنِّي أسألك من فضلك أن تجعلَنا منهم.


[1] في هامش الأصل: وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا} الآية تعليل لاستحقاق المتقين للدخول في جنات وعيون آخذين ما آثارهم؛ أي: قابلين لما أعطاهم راضين به، ومعناه: أن كل ما آتاهم حسن مرضي متلقى بالقبول. منه.
[2] في هامش الأصل: بله: أي: اترك ودع.