نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: يقصر إذا خرج من موضعه

          ░5▒ (بابٌ) بالتنوين (يَقْصُرُ) المصلِّي صلاته الرباعيَّة (إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ) قاصداً سفراً وهي أيضاً من المسائل المختلف فيها، كما سيجيئ إن شاء الله تعالى.
          (وَخَرَجَ عَلِيٌّ) وفي رواية: <علي بن أبي طالب> (☺) أي: من الكوفة، كما يدلُّ عليه السِّياق (فَقَصَرَ) الصَّلاة الرباعيَّة (وَهْوَ يَرَى الْبُيُوتَ) جملة حالية؛ أي: والحال أنَّه يرى بيوت الكوفة.
          (فَلَمَّا رَجَعَ) أي: من سفره هذا (قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ) فهل نتمُّ الصَّلاة، وسقط في رواية قوله «له» (قَالَ: لاَ) أي: لا نتمُّ (حَتَّى نَدْخُلَهَا) لأنَّا في حكم المسافرين حتَّى ندخلها، وهذا التَّعليق وصله الحاكم من رواية الثَّوري عن وِقاء بن إياس وهو _بكسر الواو بعدها قاف ثم مدة_ عن علي بن ربيعة قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب ☺ فقصرنا الصَّلاة ونحن نرى البيوت.
          وأخرجه البيهقي من طريق يزيد بن هارون، عن وِقَاء بن إياس بلفظ: خرجنا مع علي ☺ متوجِّهين هاهنا، وأشار بيده إلى الشَّام فصلَّى ركعتين ركعتين حتَّى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة حضرت الصَّلاة، قالوا: يا أمير المؤمنين هذه الكوفة / أنتِمُّ الصَّلاة؟ قال: لا حتَّى ندخلَها.
          ووقاء بن إياس فيه كلام على ما قاله صاحب «التَّلويح» وقال أبو عمر: رُوِيَ مثل هذا عن عليٍّ من وجوه شتَّى. روى ابن أبي شيبة في «مصنَّفه»: حدَّثنا عبَّاد بن العوَّام، عن داود بن أبي هند، عن أبي حارث بن أبي الأسود الدُّئلي: أن عليًّا ☺ خرج من البصرة فصلَّى الظُّهر أربعاً ثمَّ قال: إنَّا لو جاوزنا هذا الخُصَّ لصلَّينا ركعتين.
          ورواه عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه»: أخبرنا سفيان الثَّوري، عن داود بن أبي هند، عن أبي حارث بن أبي الأسود: أنَّ عليًّا ☺ لمَّا خرج من البصرة رأى خُصًّا فقال: لولا هذا الخُصُّ لصلَّينا ركعتين، فقلت: وما الخُصُّ؟ قال: بيتٌ من قصب. أقول: هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة.
          قال أبو عمر: روى سفيان بن عيينة وغيره عن أبي إسحاق عن عبد الرَّحمن بن يزيد قال: خرجت مع عليِّ بن أبي طالب ☺ إلى صفِّين، فلمَّا كان بين الجسر والقنطرة صلَّى ركعتين. وقال: وسنده صحيح.
          وقد اختلف العلماء في هذا الباب فعندنا إذا فارق المسافر بيوت المصر الذي خرج منه يقصر.
          وفي «المبسوط»: يقصر حين يُخلِّف عمران المصر، وفي «الذَّخيرة»: إن كانت لها محلَّة منتبذة من المصر وكانت قبل ذلك متَّصلة بها فإنَّها لا يقصر ما لم يجاوزها ويخلف دورها، بخلاف القرية التي تكون بفناء المصر فإنَّه يقصر وإن لم يجاوزها.
          وفي «التحفة»: المقيم إذا نوى السَّفر ومشى أو ركب لا يصير مسافراً ما لم يخرج من عمران المصر؛ لأنَّ بِنيَّة العمل لا يصير عاملاً ما لم يعمل، كما أنَّ الصَّائم إذا نوى الفعل لا يصير مفطراً.
          وفي «المحيط»: والصَّحيح أنَّه يعتبر مجاوزة عمران المصر إلَّا إذا كان ثمَّة قرية أو قرى متَّصلة بربض المصر، فحينئذٍ يعتبر مجاوزة القرى.
          وقال الشَّافعي: في البلد يشترط مجاوزة السُّور لا مجاوزة الأبنية المتَّصلة بالسُّور خارجه. وحكى الرَّافعي أنَّ المعتبر مجاوزة الدُّور. ورجَّح الشَّافعي هذا الوجه في «المجرَّد»، والأوَّل في «الشَّرح»، وإن لم يكن في جهة خروجه سورٌ أو كان في قرية يُشترط مفارقة العمران حتَّى لا يبقى بيت متَّصل ولا منفصل لا الخراب الذي لا عمارة وراءه، ولا البساتين والمزارع المتَّصلة بالبلد والقرية، وإن كانت مُحوَّطة.
          وأوَّل سفر ساكن الخيام كالأعراب مجاوزة الحلة.
          وقالت المالكيَّة: يشترط في ابتداء القصر أن يجاوزَ البلديُّ البلد والبساتين المسكونة التي في حكمها على المشهور، وهو ظاهر «المدوَّنة». وعن مالك إن كانت قرية جمعة فحتَّى يجاوز ثلاثة أميال، وأن يجاوزَ ساكن البادية حلته وهي البيوت التي ينصبها من شعر أو غيره، وأما للسَّاكن بقرية لا بناء بها ولا بساتين فبمجرَّد الانفصال عنها.
          وفي «المغني» لابنِ قدامة: ليس لمن نوى السَّفر القصر حتَّى يخرج من بيوت مصره أو قريته، ويُخلِّفها وراء ظهره قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشَّافعي وإسحاق وأبو ثور.
          وقال ابن المنذر: أجمع كل من / يُحفظ عنه من أهل العلم على هذا، وعن عطاء وسليمان بن موسى أنَّهما كانا يُبيحان القصر في البلد لمن نوى السَّفر، وعن الحارث بن أبي ربيعة أنَّه أراد سفراً فصلَّى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله ☺.
          وعن عطاء أنَّه قال: إذا دخل عليه وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يُباح له القصر. وقال مجاهد: إذا ابتدأ السَّفر بالنَّهار لا يقصر حتَّى يدخل اللَّيل، وإن ابتدأ باللَّيل لا يقصر حتَّى يدخل النَّهار.
          تنبيه: وقد فهم ابن بطَّال من قوله في التَّعليق فقال: «لا حتَّى ندخلها» أنَّه امتنع عن الصَّلاة حتَّى يدخل الكوفة قال: لأنَّه لو صلَّى فقصر ساغ له ذلك، لكنَّه اختار أن يتمَّ لاتِّساع الوقت. انتهى.
          وقد تبيَّن من سياق أثر عليٍّ ☺ أنَّ الأمر على خلاف ما فهمه ابن بطَّال، وأنَّ المراد بقولهم: «هذه الكوفة»؛ أي: فأتم الصَّلاة فقال: لا حتَّى ندخلها؛ أي: لا نزال نقصر حتَّى ندخلها، فإنَّا ما لم ندخلها في حكم المسافرين.