نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر

          ░1▒ (بابُ مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ وَكَمْ) يوماً (يُقِيمُ) أي: يمكث المسافر (حَتَّى يَقْصُرَ) أي: لأجل القصر، فـ«كم» استفهامية بمعنى: أيُّ عددٍ، ولا يكون تمييزه إلَّا مفرداً خلافاً للكوفيين، ويكون منصوباً، ولا يجوز جرُّه مطلقاً، كما عُرف في موضعه، ولفظة «حتَّى» هنا للتَّعليل؛ لأنَّها تأتي في كلام العرب لأحد ثلاثة معانٍ: لانتهاء الغاية وهو الغائب، وللتَّعليل، وبمعنى: إلَّا في الاستثناء وهذا أقلُّها.
          ولفظة «يقيم» معناها: يمكثُ، وليس المراد منه ضدَّ السَّفر بالمعنى الشَّرعي، وجواب «كم» محذوف تقديره: تسعة عشر يوماً، كما في حديث الباب [خ¦1080]، فإنَّ فيه: أقام النَّبي صلعم تسعة عشر يوماً يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يوماً قصرنا، وإن زدنَا أتممنَا. فيكون مكث المسافر في سفر تسعة عشر يوماً سبباً لجواز قصر الصَّلاة، فإذا زاد على ذلك لا يجوز له القصر؛ لأنَّ المسبب ينتفي بانتفاء السَّبب، كذا قال العيني.
          وحاصله: أنَّ المسافر إذا مكث في موضع تسعة عشر يوماً من غير نيَّة بالإقامة الشرعيَّة فيه يقصر الصَّلاة في تلك الأيام، فإذا زاد مكثه عليها أتمَّها لا أنَّ المعنى أنَّه إذا سافر مدَّة تسعة عشر يوماً يقصر الصَّلاة، فإنَّه إذا سافر مدَّة ثلاثة أيام يجوز له القصر على ما سيجيء التَّفصيل في ذلك إن شاء الله تعالى، فاندفع به ما قاله الكرماني من أنَّه لا يصحُّ كون الإقامة سبباً للقصر ولا القصر غاية للإقامة، ولا حاجة إلى ما أجاب به من أنَّ عدد الأيَّام سبب لمعرفة جواز القصر؛ أي: الإقامة / إلى تسعة عشر يوماً سبب لجوازه لا الزِّيادة عليها، ولا إلى ما أجاب به غيره من أنَّ المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر، بل هذا لا يصحُّ أصلاً؛ لأنَّ «كم» الاستفهامية على هذا تلتبس بالخبريَّة، ولا إلى ما قيل من أنَّ المراد: كم يقصر حتَّى يقيم؛ أي: حتَّى يسمَّى مقيماً فانقلب اللَّفظ، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنَّ المراد منه ليس ذلك؛ لأنَّه خلاف ما يقتضيه التَّركيب على أنَّ فيه نسبة التَّركيب إلى الخطأ، وأبعد من ذلك كلِّه أن يقال: إن «حتَّى» بمعنى: حين؛ أي: كم يقيم حين قصر، وذلك لأنَّه لم ينقل عن أحد من أهل اللِّسان أن «حتَّى» تجيء بمعنى: حين، والله أعلم.