نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صلاة الكسوف جماعة

          ░9▒ (بابُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً) أي: بجماعة فهو منصوبٌ بنزعِ الخافض، ويحتمل أن يكون حالاً بتقدير: صلاةُ القوم صلاةَ الكسوف حال كونهم جماعة، فطوى ذكر الفاعل للعلم به. وأشار بهذا إلى أنَّ صلاة الكسوف بالجماعة سنَّة.
          قال صاحب «الذَّخيرة» من أصحابنا: الجماعة فيها سنَّة، ويُصلِّي بهم الإمام / الذي يُصلِّي الجمعة والعيدين.
          وقال المرغيناني: يؤمُّهم فيها إمام حيِّهم بإذن السُّلطان؛ لأنَّ اجتماع النَّاس ربما أوجب فتنة وخللاً، ولا يصلُّون في مساجدهم، بل يصلُّون جماعة واحدة، ولو لم يقمها الإمام صلَّى النَّاس فرادى.
          وفي «المبسوط»: عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول: لكلِّ إمام مسجدٍ أن يصلِّي بجماعة في مسجده، وكذا في «المحيط». وقال الإسبيجابي: لكن بإذن الإمام الأعظم.
          (وَصَلَّى لَهُمْ) أي: للقوم (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، وفي رواية: <وصلَّى ابن عبَّاس> (فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ) الصُّفَّة _بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء_. قال ابن التِّين: صفَّة زمزم قيل: كانت أبنية يُصلِّي فيها ابن عبَّاس ☻ ، والصُّفَّة: موضع مظلَّل تجعل في دار أو حوض.
          وقال ابن الأثير في ذكر أهل الصُّفَّة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلَّل في مسجد المدينة يسكنونه.
          وقال الكرماني: صُفَّة _بضم المهملة_ وفي بعضها: بالمعجمة، وهي _بالكسر والفتح_ جانب الوادي، وضفتاه: جانباه. وهذا التَّعليق رواه ابن أبي شيبة، عن غندر:حدَّثنا ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس: أن الشَّمس انكسفت على عهد ابن عبَّاس ☻ ، فصلَّى على صفَّة زمزم ركعتين في كلِّ ركعة أربع سجدات.
          ورواه الشَّافعي، وسعيد بن منصور جميعاً: عن سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول: سمعتُ طاوساً يقول: كسفت الشَّمس، فصلَّى بنا ابن عبَّاس ☻ في صفَّة زمزم ستَّ ركعات في أربع سجدات، وبين الرِّوايتين مخالفة.
          وقال البيهقيُّ: روى عبد الله بن أبي بكر، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: رأيتُ ابن عبَّاس ☻ صلَّى على ظهر زمزم في كسوف الشَّمس ركعتين في كلِّ ركعة ركعتان.
          وقال الشَّافعي: إذا كان عطاء وعَمرو، أو صفوان والحسن يروي عن ابن عبَّاس ☻ خلاف سليمان الأحول كانت رواية ثلاثة أولى أن تقبلَ، ولو ثبت عن ابن عبَّاس ☺ أشبه أن يكون ابن عبَّاس ☻ فرَّق بين خسوف الشَّمس والقمر، وبين الزَّلزلة؛ فقد رُوي أنَّه صلَّى في زلزلة ثلاث ركوعات في ركعة فقال: ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض؛ أي: رعدة؟
          قال الجوهريُّ: الأرض: النَّفضة / والرَّعدة، ثمَّ نقل قول ابن عبَّاس ☻ هذا.
          فائدة: قال أبو عمر: لم يأتِ عن النَّبي صلعم من وجه صحيح أنَّ الزَّلزلة كانت في عصره، ولا صحَّت عنه فيها سنَّة، وأوَّل ما جاءت في الإسلام على عهد عمر بن الخطَّاب ☺.
          وفي «المعرفة» للبيهقيِّ: صلَّى علي بن أبي طالب ☺ في زلزلة ستَّ ركوعات في أربع سجدات وخمس ركعات، وسجدتين في ركعة وركعة، وسجدتين في ركعة.
          وقال الشَّافعي: لو ثبت هذا الخبر عن عليٍّ ☺ لقلنا به، وهم يثبتونه، ولا يأخذون به.
          (وَجَمَّعَ) أي: النَّاس وهو _بتشديد الميم_ (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) لصلاة الكسوف، وهو عليُّ بن عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطَّلب جدُّ سادات بني هاشم، وهو تابعي ثقة، روى له مسلم والأربعة. وروى له البخاري في «الأدب» [خ¦2812]، وكان أصغر ولد أبيه سنًّا.
          وكان يدعى السجَّاد، وكان يسجدُ كلَّ يوم ألف سجدة، ولد ليلة قتل عليِّ بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين، فسمِّي باسمه، وكنِّي بكنيته أبا الحسن. وكان أجمل النَّاس، وهو جدُّ الخلفاء العبَّاسية، مات سنة أربع عشرة ومئة.
          وعن يحيى بن معين: مات سنة ثماني عشرة ومئة بالحُمَيمة من أرض البلقاء في أرض الشَّام، وهو ابن ثمان أو تسع وسبعين سنة.
          (وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ) ☻ ، يعني: صلاة الكسوف بالنَّاس. وأخرج ابن أبي شيبة قريباً من معناه:حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله قال: رأيتُ ابن عمر ☻ يهرول إلى المسجد في كسوف، ومعه نعلاه؛ يعني: لأجل الجماعة.
          وأشار المؤلِّف ☼ بهذين الأثرين إلى أنَّ صلاة الكسوف بالجماعة، وبهذا يحصل المطابقة بينهما، وبين التَّرجمة.