نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟

          ░5▒ (بابٌ) بالتنوين (هَلْ يَقُولُ) القائل (كَسَفَتِ الشَّمْسُ) بالكاف (أَوْ) يقول: (خَسَفَتْ) بالخاء المعجمة. قيل: أتى البخاري بلفظ الاستفهام؛ إشعاراً منه بأنَّه لم يترجَّح عنده في ذلك شيء.
          وقال الحافظ العسقلاني: ولعلَّه أشار إلى ما رواه ابن عيينة عن الزُّهري عن عروة: ((لا تقولوا كسفت الشَّمس، ولكن قولوا: خسفت))، وهذا موقوفٌ صحيحٌ رواه سعيد بن منصور عنه.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ ترتيب البخاري يدلُّ على أنَّ الخسوف يقال في الشَّمس والقمر جميعاً؛ لأنَّه ذكر الآية، وفيها نسبة الخسوف إلى القمر، ثمَّ ذكر الحديث، وفيه نسبة الخسوف إلى الشَّمس، / وكذلك يقال بالكسوف فيهما جميعاً؛ لأنَّ في حديث الباب فقال في كسوف الشَّمس والقمر: ((إنَّهما آيتان)) [خ¦1047].
          وبهذا يردُّ على عروة فيما روى الزُّهري عنه، وبما رُوِىَ في أحاديث كثيرة.
          منها: حديث المغيرة بن شعبة الذي مضى في أوَّل الأبواب قال: ((كسفت الشَّمس على عهد رسول الله صلعم ))، الحديث. وفيه أيضاً: ((إنَّ الشَّمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ)) [خ¦1043]، واستعمال الكسوف للشَّمس، والخسوف للقمر اصطلاح الفقهاء، واختاره ثعلب أيضاً.
          قال في «الفصيح»: إن كسفت الشَّمس وخسف القمر أجود الكلامين. وذكر الجوهريُّ أنَّه أفصح. وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغلَّطه لثبوته بالخاء في القرآن، قال تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8]. ويدلُّ على القول الأوَّل: إطلاق اللَّفظين في المحلِّ الواحد في الأحاديث.
          وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: حديثُ الكسوف رواه عن النَّبي صلعم سبعة عشر نفساً، رواه جماعة بالكاف، وجماعة بالخاء، وجماعة باللَّفظين جميعاً. انتهى.
          ولا ريب أنَّ مدلولَ الكسوف لغة غير مدلول الخسوف، فقيل: الكسوف أن تنكسفَ ببعضها، والخسوف أن يخسفَ بكلِّها. وقيل: الكسوف في الوجه الصُّفرة والتغيُّر، والخسوف هو النُّقصان، وكذلك تقول: انخسفت العين إذا غارت في جفنها، وذهب نورها وضياؤها.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) في سورة القيامة ({وَخَسَفَ الْقَمَرُ}) إيراد البخاري هذه الآية إشارة إلى أنَّ الأجود أن يقال: خسف القمر، وإن كان يجوز أن يقال: كسف القمر، كما أسند الكسف إليه، كما أسند إلى الشَّمس في حديث المغيرة بن شعبة المذكور في أوَّل الأبواب [خ¦1043] وفي غيره، وكذلك في حديث الباب.
          وقيل: فيه إشعار بجواز الخاء في الشَّمس والقمر. وقيل: فيه إشعار باختصاص القمر بخسف الذي بالخاء، واختصاص الشَّمس بـ«كسف» الذي بالكاف، كما هو المشهور عند الفقهاء، والله أعلم.