إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم

          6646- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) القعنبيُّ (عَنْ مَالِكٍ) الإمام ابن أنس الأصبحيِّ (عَنْ نَافِعٍ) أبي عبد الله الفقيه (عَنْ) مولاه (عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ☻ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (وَهْوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ) راكبي الإبل عشرة فصاعدًا، حال كونه (يَحْلِفُ بِأَبِيهِ) الخطَّاب (فَقَالَ) صلعم : (أَلَا) بالتَّخفيف (إِنَّ اللهَ) ╡ (يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) وفي «مصنف ابن أبي شيبة» من طريق عكرمةَ قال: قال عُمر ☺ : «حدَّثتُ قومًا حديثًا، فقلتُ: لا وأبي، فقال رجلٌ من خلفِي: لا تحلِفُوا بآبائكُم، فالتفتُّ فإذا رسولُ الله صلعم يقول: لو أنَّ أحدكم حلفَ بالمسيحِ هلكَ والمسيحُ خيرٌ من آبائكُم» قال الحافظُ ابن حجرٍ: وهذا مرسلٌ يتقوَّى بشواهد(1)، وأما قوله صلعم : «أفلحَ وأبيهِ إنْ صَدَق» فقال ابنُ عبدِ البرِّ: إنَّ هذه اللَّفظة منكرةٌ غير محفوظةٍ تردُّها الآثار(2) الصِّحَاح، وقيل: إنَّها مصحَّفة من قولهِ: «والله» وهو محتملٌ، ولكن مثل هذا لا يثبتُ بالاحتمال لاسيَّما وقد ثبتَ مثلُ ذلك من لفظِ أبي بكر الصِّدِّيق في قصَّة السَّارق الَّذي سرقَ حليَّ ابنتهِ، فقال: «وَأَبِيكَ مَا لَيْلُك بِلَيْلِ سَارِقٍ» أخرجه في «الموطأ» وغيره، وفي مسلم مرفوعًا: أنَّ رجلًا سأله‼: أيُّ الصَّدقة أفضل؟ فقال: «وأَبِيكَ لأُنَبِّئنَّكَ أو لَأُحدِّثَنَّك» وأحسنُ الأجوبةِ ما(3) قاله البيهقيُّ _وارتضاهُ النَّوويُّ وغيره_ أنَّ هذا اللَّفظ كان يجرِي على ألسنتِهِم من غيرِ أن يقصدُوا به القسَم، والنَّهيُ إنَّما وردَ في حقِّ من قصدَ حقيقةَ الحلف، أو أنَّ في الكلامِ حذفًا، أي: أفلحَ وربِّ أبيهِ، قاله البيهقيُّ أيضًا (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) بضم الميم، و«مَن» شرطيَّة في موضعِ رفع بالابتداءِ، و«كان» واسمُها وخبرها في محلِّ الخبر، والمعنى: مَن كان مريدًا(4) للحلفِ فلْيَحلف بالله لا بغيرِه من الآباءِ وغيرِهم، وحكمَتُه(5): أنَّ الحلفَ بالشَّيءِ يقتضِي تعظيمَه، والعظمةُ في الحقيقةِ إنَّما هي لله تعالى وحدَه، وظاهرُه تخصيصُ الحلفِ باللهِ خاصَّة، لكن اتَّفقوا على أنَّه ينعقدُ بما اختصَّ الله تعالى به ولو مشتقًّا ولو من غيرِ أسمائهِ الحُسنى كـ : واللهِ وربِّ العالمين والحيِّ الَّذي لا يموتُ، ومن نفسي بيدِه، إلَّا أن يريدَ به غير اليمين، فيقبلُ منه كما في «الروضة» كأصلها، أو بما هوَ فيه تعالى عند الإطلاقِ أغلب كالرَّحيم والخالقِ والرَّازق والرَّبّ ما لم يَرِدْ بها غيره تعالى؛ لأنَّها تستعملُ في غيرِه مقيَّدة كرحيمِ القلبِ، وخالقِ الإفكِ، ورازقِ الجيش، وربِّ الإبل، أو بما هو فيه تعالى وفي غيرِه سواء كالموجودِ، والعالم، والحيِّ إن أراده تعالى / بها، بخلافِ ما إذا أرادَ بها غيره أو أطلقَ؛ لأنَّها لمَّا أُطلقتْ عليهما سواء أشبهت الكنايات، وبصفتهِ الذَّاتيَّة كعظمتهِ وعزَّته وكبريائهِ وكلامهِ ومشيئتهِ وعلمهِ وقدرتهِ وحقِّه، إلَّا أن يريدَ بالحقِّ العبادات، أو بعلمهِ وقدرتهِ المعلوم والمقدُور، وظاهر قوله: «فليحلفْ بالله» الإذنُ في الحلف، ولكن قال الشَّافعيَّة: يُكره لقولهِ تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ}[البقرة:224] إلَّا في طاعةٍ مِن فعْلِ(6) واجبٍ أو مندوبٍ، وتركِ حرامٍ أو مَكروهٍ فطاعة، وفي دَعوى عندَ حاكمٍ، وفي حاجةٍ كتوكيدِ كلامٍ، كقولهِ صلعم : «فوَاللهِ لَا يمَلُّ اللهُ حتَّى تمَلُّوا» [خ¦43] أو تعظيمِ أمرٍ كقولهِ: «واللهِ لَو تعلمُونَ مَا أَعْلَم لضَحِكْتُم قَليلًا ولَبَكَيْتم كثيرًا» [خ¦1044] فلا يُكره فيهما.


[1] في (ع) و(د): «له شواهد».
[2] في (ع) زيادة: «و».
[3] في (ص): «كما».
[4] في (ص): «يريد».
[5] في (د): «والحكمة».
[6] في (ع): «حلف».