إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ويحك يا أنجشة رويدك سوقًا بالقوارير

          6149- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو: ابن مُسَرْهدٍ قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) ابن عُلَيَّة قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) السَّخْتِيانِيُّ (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بكسر القاف، عبدُ الله بن زيدٍ الجَرميِّ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺ ) أنَّه (قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلعم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ) أمُّ أنس(1)، وفي رواية حمَّاد بن زيد، في «باب المعاريض» [خ¦6210] أنَّه كان في سفرٍ. ومن طريق شعبة عند الإسماعيليِّ والنَّسائيِّ وكان معهم سائقٌ وحادٍ. وفي رواية وهيب وأنجشةُ غلامُ النَّبيِّ صلعم يسوقُ بهنَّ [خ¦6202] (فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ) بفتح الهمزة والجيم بينهما نون ساكنة وبعد الجيم شين معجمة فهاء تأنيث، وكان حبشيًّا، يكنى أبا مارية (رُوَيْدَكَ سَوْقًا) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي: ”سوقَكَ“ (بِالقَوَارِيرِ) وسقطَ من «الفرع التَّنكزي»(2) لفظ «سوقك، وسوقًا» وعلى إثباته الشُّرَّاح، وهو الَّذي في «اليونينية»(3)، و«رويدَكَ» مصدرٌ والكاف في موضعِ خفضٍ، أو اسم فعلٍ والكاف حرفُ خطابٍ، و«سوقك» بالنَّصب على الوجهين، والمراد حدوك إطلاقًا لاسم المسبِّب على السَّبب، وقال ابن مالكٍ: «رويدكَ»‼ اسم فعلٍ بمعنى أرود، أي: أمهل، والكاف المتَّصلة به حرف خطابٍ، وفتحة داله بنائيَّة(4)، ولك أن تجعلَ «رويدَكَ» مصدرًا مضافًا إلى الكافِ ناصبًا «سوقَكَ» وفتحةُ دالهِ على هذا إعرابيَّة، واختارَ أبو البقاء الوجه الأوَّل، والقواريرُ جمع قارورة، سمِّيت بذلك لاستقرارِ الشَّراب فيها، وكنَّى عن النِّساء بالقواريرِ من الزُّجاج لضعفِ بنيتهنَّ ورقَّتهنَّ ولطافتهنَّ، وقيل: شبَّههنَّ بالقواريرِ لسرعةِ انقلابهنَّ عن الرِّضا، وقلَّة دوامهنَّ على الوفاء، كالقواريرِ يسرعُ الكسرُ إليها، ولا تقبل الجبرَ، أي: لا تحسِنْ صوتك، فربَّما يقعُ في قلوبهنَّ فكفَّه عن ذلك، وقيل: أرادَ أنَّ الإبلَ إذا سمعت الحُداءَ أسرعتْ في المشي واشتدَّت فأزعجتِ الرَّاكب، ولم يؤمن على النِّساء السُّقوط، وإذا مشتْ رويدًا أمن على النِّساء، وهذا من الاستعارةِ البديعةِ؛ لأنَّ القواريرَ أسرعُ شيءٍ تكسُّرًا، فأفادتِ الكناية من(5) الحضِّ على الرِّفق بالنِّساء في السَّير ما لم تفدْه الحقيقةُ لو قال: ارفق بالنِّساء، وقال في «شرح المشكاة»: هي استعارةٌ لأنَّ المشبَّه به غير مذكورٍ، والقرينة حاليَّة لا مقاليَّة، ولفظ الكسر ترشيحٌ لها.
          (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله الجرميُّ _بالسَّند السَّابق_: (فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلعم بِكَلِمَةٍ، لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ) ثبت لفظ: ”بها“ لأبي ذرٍّ (قَوْلُهُ: سَوْقَكَ بِالقَوَارِيرِ).
          قال في «الكواكب»: فإن قلتَ: هذه استعارةٌ لطيفةٌ بليغةٌ فلِمَ تعاب؟ وأجاب: بأنَّه لعلَّه نظر إلى أنَّ شرط الاستعارة أن يكون وجه الشَّبه جليًّا بين الأقوام، وليس بين القارورةِ والمرأة وجه شبهٍ ظاهرٍ، والحقُّ أنَّه كلامٌ في غايةِ الحُسن والسَّلامة عن العيوبِ، ولا يلزمُ في الاستعارةِ أن يكون جلاء وجهِ الشَّبه(6) من حيث ذاتهما، بل يكفِي الجلاءُ الحاصلُ من القرائنِ الحاصل للوجه جليًّا ظاهرًا(7)، كما في المبحثِ، فالعيبُ في العائب:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحًا                      وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
قال: يحتملُ أن يكون قصدُ أبي قِلابة أنّ هذه الاستعارة تحسُن من مثلِ رسولِ الله صلعم في البلاغةِ، ولو صدرتْ ممَّن لا بلاغةَ له لعبتموها، قال: وهذا هو اللَّائق بمنصبِ أبي قلابة، وقال الدَّاوديُّ: هذا قاله أبو قِلابةَ لأهل العراقِ لما كان عندهم من التَّكلُّف ومعارضة الحقِّ بالباطلِ.
          ومطابقةُ الأحاديثِ لما ترجمَ عليه(8) ظاهرةٌ. فإن قلت: قد نفى الله تعالى عنه صلعم في كتابه أن يكون شاعرًا، وفي الأحاديث أنَّه أنشد الشِّعر واستنشدَه؟ أُجيب بأنَّ المنفيَّ في الآية إنشاءُ الشِّعر لا إنشاده، ولا يقالُ لمن قاله متمثِّلًا أو جرى على لسانه موزونًا من غير قصدٍ: إنَّه شاعرٌ، وقد دلَّ غير ما حديثٍ على جوازِ وقوع الكلام منه منظومًا من غير قصدٍ إلى ذلك، ولا يسمَّى مثل ذلك شعرًا ولا القائلُ به شاعرًا، وقد وقعَ كثيرٌ من ذلك في القرآنِ العظيمِ لكن غالبه أشطارُ أبيات، والقليل منه وقعَ وزن بيت تامٍّ، وللعلَّامة الشِّهاب أبي الطَّيِّب الحجازي «قلائد النحور في جواهر البحور» / ذكر فيها ما استخرج من القرآن العزيز ممَّا جاء على أوزانِ البحور اتِّفاقًا، فمن ذلك قوله ممَّا هو من البحرِ الطَّويل:
أَيَا مَنْ طَوِيلَ اللَّيلِ بالنَّومِ قَصَّـروا                     أَنِيْبُوا وكُوْنُوا مِنْ أُنَاسٍ بِهِ تَاهُوا
وَإِنْ شِئْتُمُوا تَحْيوا أَمِيتُوا نُفُوسَكُم                     وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ
ومن البحر الوافر:
صُدُورَ الجَيْشِ يُظْفِرُكم إِلَه                     بِوَافِر سَهْمِكُم بالكَافِرِين
ويُخْزِهِم(9) وَيَنْصُـركُم عَلَيهِم                      وَيَشْفِ صُدُورَ قَومٍ مُؤْمِنِين
ومن الكامل:
مَاتَ ابْنُ مُوسَى وَهُو بَحْرٌ كَامِل                     فَهَنَّاكُمُ(10) جَمْعُ المَلَائكِ مُشْتَرك
يَأتِيْكُم التَّابُوتُ فِيهِ سَكِيْنَة                     مِنْ ربِّكُم وبَقيَّةٌ ممَّا تَرَك
          ومن الرَّمل:
أيُّهَا الأَرْمَلُ إِنْ رُمْتَ عَفَافًا                     فَتَزَوَّجْ مِنْ نِسَاءٍ خَيِّرَاتٍ
مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ                     تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ
ومن مجزوء الرَّمل:
أَسْعِدُوا المُرَمَّلَ تُجْزوا                     ذَاكَ أَوْلَى مَا تُعِدَّون
لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى                     تُنْفِقُوا مَمَّا تُحِبُّونَ
ومن السريع:
يَا أَهْلَ دِيْنِ اللهِ بُشْـرَاكُمُ(11)                     أَقَرَّ مَوْلاكُم بِهِ عَيْنَكُم
إِذْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى المُصْطَفَى                     اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُم
ومن الخفيف:
لَا تَدَعِ اليَتِيمَ يَوْمًا وَكُنْ فِي                     شَأْنِهِ كُلِّهِ رَؤوفًا رَحِيْمًا
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكِذِّبُ بِالدِّيْن                      فَذَاكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيْمَا
ومن المضارع:
وَضَارِعْ أُهَيْلَ خَيْر                     تَنَل مِنْ رَبٍّ يَقِيْنَا
جِنَانًا مُزَخْرَفَاتٍ                     وَهُمْ فِيْهَا خَالِدُونا
ومن المجتثِّ:
اجْتُثَّ قَلْبِي بِذَنْبِي                     وَاللهُ خَيْرًا يَزِيْدُ
وَكَيْفَ أَخْشَى ذُنُوبِي                      وَهُو الغَفُوْرُ الوَدُوْدُ
وفي «فتح الباري» جملة من الآيات(12) من هذا المعنى، وكان الأولى بي ترك ذلك لكن جرى القلم بما حكمَ، والله أسأل الرَّشاد إلى طريق السَّداد، وأن يختمَ لي بالإسلام والسُّنَّة(13) في عافيةٍ بلا محنةٍ، وأن يفرِّج كربِي.


[1] «أم أنس»: ليست في (د).
[2] «التنكزي»: ليست في (د).
[3] قوله: «وهو الذي في اليونينيَّة»: ليس في (د).
[4] في (ع): «بيانية».
[5] «من»: ليست في (د).
[6] في (ص) و(ل): «الوجه»، وفي (ع) وهامش (ل) من نسخة: «وجه التشبيه».
[7] قوله: «الحاصل للوجه جليًّا ظاهرًا»: زيادة من (ص) و(ع). وعبارة الكواكب: «من القرائن الجاعلة للوجه...».
[8] في (ص) و(ل): «له».
[9] في (س): «ويخزهمو».
[10] في (س): «فهنَّاكمو».
[11] في (س): «بشراكمو».
[12] في (ع): «الأبيات».
[13] «والسنة»: ليست في (ع).