إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الصدق يهدي إلى البر

          6094- وبه قال: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أخو أبي بكرِ ابن أبي شيبة قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هو: ابنُ عبد الحميدِ (عَنْ مَنْصُورٍ) هو ابنُ المعتمرِ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيقِ بن سلمة (عَنْ عَبْدِ اللهِ) ابن مسعودٍ ( ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ) بكسر الموحدة وتشديد الراء، أي: يوصلُ إلى الخيراتِ كلِّها، والصِّدق يطلقُ على صدق اللِّسان وهو نقيضُ الكذبِ، والصِّدقُ في النِّيَّة وهو الإخلاص، فيراعي معنى الصِّدق في مُنَاجاته ولا يكنْ ممَّن قال: وجَّهت وجهي لله، وهو غافلٌ كاذبٌ، والصِّدق في العزم على خيرٍ نواه، أي: يقوِّي عزمه أنَّه إذا ولي مثلًا لا يظلم، والصِّدق في الوفاء بالعزمِ، أي: حال وقوعِ الولايةِ مثلًا، والصِّدق في الأعمالِ وأقلُّه استواءُ سريرتهِ وعلانيَّتهُ، والصِّدق في المقاماتِ كالصِّدق في الخوفِ والرَّجاء وغيرهما، فمن اتَّصف بالستَّة كان صدِّيقًا أو ببعضِها كان صِادقًا. وقال الرَّاغب: الصِّدق مطابقةُ القول الضَّمير والمخبرَ عنه، فإن انخرمَ شرط لم يكن صدقًا بل يكون كذبًا أو متردِّدًا بينهما على اعتبارين كقولِ المنافق: محمَّدٌ رسولُ الله، فإنَّه يصحُّ أن يقال: صدقٌ لكون المخبر عنه كذلك، ويصحُّ أن يقال: كذب؛ لمخالفةِ قوله لضميرهِ (وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي) يوصلُ (إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ) في السِّرِّ والعلانيَّة، ويتكرَّر ذلك منه (حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا) بكسر الصاد والدال المشددة، وهو من أبنيَةِ المبالغةِ ونظيرُهُ الضِّحيك، والمراد فرطُ صدقهِ حتَّى يصدِّق قوله العملُ، فالتَّنكير للتَّعظيم والتَّفخيم، أي: بلغَ في الصِّدق إلى غايتهِ ونهايتهِ حتَّى دخلَ في زمرتهم واستحقَّ ثوابهم (وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي) يوصلُ (إِلَى الفُجُورِ) الَّذي هو ضدُّ البرِّ (وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي) يوصلُ (إِلَى النَّارِ) قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:13_14] (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ) ويتكرَّر ذلك منه (حَتَّى يُكْتَبَ) بضم أوله، مبنيًّا للمفعول (عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) أي: يحكمُ له بذلك ويظهره للمخلوقين من الملأ الأعلى، ويلقي ذلك في قلوبِ أهل الأرضِ وألسنتهم(1)، فيستحقُّ بذلك صفة الكذَّابين وعقابهم، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”حتَّى يكون“ بدل: يكتب، وعن ابنِ مسعودٍ _ممَّا ذكرهُ الإمام مالكٍ بلاغًا_: لا يزالُ العبد يكذب ويتحرَّى الكذب، فينكتْ في قلبه نكتةً سوداء حتَّى يسودَّ قلبه، فيكتب عند الله من الكذَّابين.
          وحديثُ الباب‼ أخرجه مسلمٌ في «الأدبِ» أيضًا.


[1] في (ع) زيادة: «ويكتبون اسمه في صفاتهم».