التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا صلى قاعدًا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي

          ░20▒ بَابُ إذا صَلَّى قَاعِدًِا ثمَّ صَحَّ أو وَجَدَ خِفَّةً تمَّمَ مَا بَقِيَ.
          وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ شَاءَ المَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا وَرَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا.
          1118- 1119- وذكر فيه حديث عَائِشَةَ: (أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللهِ صلعم يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ _أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً_ ثُمَّ رَكَعَ).
          وعنها أنَّه ◙ (كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا فَيَقْرَأُ وَهْوَ جَالِسٌ...) الحديث.
          الشرح: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ وأبو داود والنسائي وابن ماجه أيضًا، وقول الحسن: أخرجه ابن أبي شَيبةَ عن هُشَيمٍ عن مغيرةَ، وعن يُونُسَ عن الحسنِ أنَّهما قالا: يصلِّي المريض على الحالة التي هو عليها.
          وفي التِّرْمذيِّ عن الحسن: ((إِنْ شَاءَ الرَّجُلُ صلَّى التَّطَوُّعَ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا)).
          وقال ابن التِّين: إنَّه لا وجه له لأنَّهُ قال: إن شاء وفرض القيام لا يسقط عمَّن قَدِرَ عليه، إلَّا أن يريد إن شاء بكلفةٍ كبيرةٍ، قال الحُمَيديُّ: وليس لعلقمةَ عن عائشةَ في «صحيح مسلمٍ» غير هذا.
          قلتُ: عَلْقَمة أحد الأربعة الذين حدَّث عنهم الزُّهريُّ حديث الإفك عن عائشة، واعترض ابن بطَّالٍ فقال: ترجم للفرض، وذكر النافلة ووجه استنباط البخاريِّ منه الفرض أنَّه لَمَّا جاز في النافلة القعود لغير عِلَّةٍ مانعةٍ مِن القيام، وكان ◙ يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التي لا يجوز فيها إلَّا بعدم القدرة على القيام أولى أن يلزم القيام فيها إذا ارتفعت العِلَّة المانعة منه.
          وقال ابن المنيِّر بعد أن سأل: ما وجه دخول الترجمة في الفقه؟ ومِن المعلوم ضرورةً أنَّ القيام إنَّما سقط لمانعٍ منه، فإذا جاءت الصِّحَّة وزال المانع وجب الإتمام قائمًا، إنَّما أراد دفع خيال مَن تخيَّل أنَّ الصَّلاة لا تتبعَّضُ فإمَّا أنَّها كلَّها تُستأنف إذا صحَّ القيام، وإمَّا جالسًا كلَّها إذا استُصحبت العلَّة، فبيَّن بهذا الحديث أنَّهُ صلعم كان يحافظ على القيام في النافلة ما أمكنه، ولَمَّا أسنَّ تعذَّر عليه استيعابها بالقيام فبعَّضها، فكذلك الفريضة إذا زال المانع لما يستأنفها بطريق / الأولى.
          وقال ابن التِّين: مراد النافلة والرسم للفريضة وجاء بحديث النَّفل.
          وقولها: (باللَّيْلِ) ونبَّهتْ بالليل على فعله مِن الفريضة التي هي آكد، وقصدتْ أيضًا الإخبار عن فعله باللفظ الخاصِّ، لأنَّها لو قالت: يُصلِّي قائمًا لجاز أن يكون في الفرض دون النَّفل فلا يحصل في ذلك الحثُّ والتأكيد في قيام النافلة ثمَّ قالت: (حتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يُصَلِّيْ قَاعِدًا) فأخبرتْ عن عُذره بالسنِّ إبقاءً على نفسه ليستديم الصَّلاة، ثمَّ قالت: (حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ) فأخبرت بمواظبته على القيام وأنَّه كان لا يجلس عمَّا يطيقه من ذلك.
          وفيه أنَّ مَن لم يطق القيام في جميع صلاته قام ما يطيقه منها، ولا خلاف فيه في النافلة، ثم هذا لمن افتتح النافلة قاعدًا، فإن افتتحها قائمًا ثم أراد أن يجلس فذلك له عند ابن القاسم، وأَبَاه أشهبُ إتمامًا لِمَا افتتح به.
          وقولها: (فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا...) إلى آخره. ظاهره تكرار ذلك منه وأنَّه فعله لضعفٍ عن القيام في جميعها، ولم يكن ذلك لأمرٍ طرأ له في بعض الصَّلاة، وإلَّا لخرج عن حدِّ الجواز في النَّافلة لِمَا ذكرناه.
          وأمَّا الفرض فإن افتتحها قاعدًا لعجزه عن القيام ثمَّ أطاقه لزمه، ولو افتتح قائمًا ثمَّ عجز أتمَّها قاعدًا، وبه قال أبو حنيفةَ والثَّوريُّ والشافعيُّ.
          وقال محمَّد بن الحسن: يستأنف الصَّلاة إلَّا أن يتمادى قائمًا وكذا قال أبو يوسف، وكذا نقله ابن بطَّالٍ عنهما، والذي في البداية عدم التفرقة، ولا شكَّ أنَّ طرآن العجز بعد القدرة كعكسهِ، والعجز عن الركن لا يبطل حكم الركن المقدور عليه، كما أنَّ القدرة إذا طرأت لم تبطل حكم ما مضى.
          وقال ابن القاسم في المريض: يصلِّي مضطجعًا أو قاعدًا، ثمَّ يخفُّ عنه المرض فيجد قوَّةً أنَّهُ يقوم في الباقي ويبني، وهو قول زُفَرَ والشافعيِّ، وقال أبو حنيفة وصاحباه: إن صلَّى ركعةً مضطجعًا، ثمَّ صحَّ أنَّهُ يستقبل الصَّلاة، ولو كان قاعدًا يركع ويسجد بنى في قول أبي حنيفة، ولم يبنِ في قول محمَّد بن الحسن، ووجه البناء أنَّ قدرته على القعود بعد الإيماء توجب البناء، فكذا قدرته على القيام لأنَّه أصلٌ كالقعود.
          لا يُقال: إنَّ القاعد يقدر على الركوع والسجود، والمومئ لا يقدر عليه والقادر معه بدلٌ على القيام، والمومئ لا بدل معه لأنَّ صلاته بالإيماء صحيحةٌ كقدرته على القيام والقعود، فقد استوت أحواله، فإذا كان عجزه عن فرضٍ لا يُبطل الآخر ويبني عليه فكذا القدرة.
          لا يُقال: قد جوَّزنا معكم إمامة القاعد دون المومئ فثبت الفرق؛ لأنَّ القاعد معه بدل القيام والسجود جميعًا، وقد صحَّ عقده لتكبيرة الإحرام، كما يصحُّ في قيامه وقعوده، وأمَّا التفرقة بينهما في الإمامة فليس إذا أبطلنا حكم المأموم لعلَّةٍ في الإمام وجب أن تبطل صلاة الإمام، وصلاةُ المومئ في نفسه صحيحةٌ، وإن لم يصحَّ الائتمام به كصلاة المرأة هي صحيحةٌ، وإن لم يصحَّ الائتمام بها، والأُمِّيُّ بالقارئ.
          واختلفوا في النافلة يفتتحها قاعدًا هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ فكرهه قومٌ لحديث عائشة: ((كَانَ ◙ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ قَائِمًا وَقَاعِدًا، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا رَكَعَ قَائِمًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا رَكَعَ قَاعِدًا)).
          وخالفهم آخرون وأجازوه لحديث عائشةَ في الباب، وهو قول أبي حنيفةَ وأبي يوسفَ ومحمَّدٍ، وهو قياس قول مالكٍ وقاله أشهب، وحديثها هذا أولى مِن ذاك لأنَّ في هذا أنَّه كان يركع قائمًا بعدما افتتحها قاعدًا، وهو نصٌّ في موضع الخلاف.
          وتماديه على الركوع في ذاك الحديث حتَّى يركع قاعدًا لا يدلُّ أنَّهُ ليس له أن يقوم فيركع قائمًا، وقيامه مِن قعوده حتَّى يركع قائمًا يدلُّ أنَّ له أن يركع قائمًا بعدما افتتح قاعدًا وهو حكمٌ زائدٌ، والزيادة يجب الأخذ بها فلذلك جعلناه أولى مِن حديثها ذاك.
          وقال مالكٌ: مَن افتتح النافلة قائمًا ثمَّ شاء الجلوس له ذلك، وخالفه أشهب فقال: لا يجلس لغير عُذرٍ وقد لزمه تمامها بما نوى فيها مِن القيام، فإن فعل أعاد إلَّا أن يُغلب فلا قضاء عليه.
          وقولها في الحديث: (فَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) دالٌّ للأوَّل، ويحتمل أنَّه ◙ ينوي ذلك عند افتتاحه، ولعلَّ أشهب لا يمنع ذلك إذا نوى فيه الجلوس، وإنَّما يمنعه إذا نوى القيام أو أطلق نيَّته.
          وقولها: (فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرَ ثَلَاثِيْنَ) ظاهره أنَّ ما يقرأ قبل القيام أكثر، لأنَّ البقية لا تنطلق في الأغلب إلَّا على الأقلِّ.
          وفيه حديث الرجل آخر الليل بخلاف حديثه قبل النَّوم.
          وفيه الاضطجاع بعد التهجُّدِ إذا لم يحدث أهله، ومفهوم هذا أنَّ اضطجاعه نومٌ.