التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في كم يقصر الصلاة؟

          ░4▒ بَابُ في كَمْ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ؟ وَسَمَّى النَّبِيُّ صلعم: (الْسَّفَرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا.
          1086- ثمَّ ساقَ بإسنادِهِ حَديثَ ابن عُمَر: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: (لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ). وعنه: (لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُوْ مَحْرَمٍ).
          ذكر الأوَّل من حديث أبي أسامةَ عن عُبَيد الله عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ.
          1087- والثاني عن يحيى_هو القطَّان_ عن عُبَيد الله به _ثمَّ قال_: تابعه أحمد عن ابن المبارك، عن عُبَيد الله به.
          1088- ثمَّ ساق حديث سعيد الْمَقْبُرِيِّ عن أبيه عن أبي هريرة: (لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) تابعه يحيى بن أبي كثيرٍ وسهيلٌ ومالكٌ عن الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هريرة.
          الشرح: أمَّا قوله: (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلعم السَّفَرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً) مراده ما أخرجه في الباب مِن حديث أبي هريرة: (أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ).
          وأمَّا أثر ابن عمر وابن عبَّاسٍ فرواهما البيهقيُّ من حديث عطاء بن أبي رَبَاحٍ، أنَّ عبد الله بن عمر وعبد الله بن عبَّاسٍ كانا يصلِّيان ركعتين، ويفطران في أربعة بُرُدٍ فما فوق ذلك، رواه مِن طريق الشافعيِّ وابن بُكَيرٍ عن مالكٍ عن نافعٍ عن سالمٍ: ((أنَّ ابن عمر ركب إلى ذات النُّصُب فقصَر الصَّلاة في مسيره ذلك)) قال مالكٍ: وبين ذات النُصُب والمدينة أربعة بُرُدٍ.
          ومِن طريقهما عن مالكٍ عن ابن شهابٍ عن سالمٍ عن أبيه أنَّه ركب إلى ريم فقصَر الصَّلاة في مسيره ذلك. قال مالكٌ: وذلك نحو من أربعة بُرُدٍ، وذكره ابن حَزْمٍ فقال: وعن مَعْمَرٍ أخبرني أيُّوبُ عن نافعٍ أنَّ ابن عمر كان يقصُرُ الصَّلاة في مسيرة أربعة بُرُدٍ، قال: وهذا فيما اختُلف فيه على ابن عمر.
          وروى ابن أبي شَيبةَ حدَّثنا ابن عُلَيَّةَ عن أيُّوبَ عن نافعٍ عن سالمٍ أنَّ ابن عمر خرج إلى أرض له بذات النُّصُب فقصَر، وهي سِتَّةَ عشرَ فرسَخًا.
          وروى بإسناده إلى ابن بُكَيرٍ حدَّثنا مالكٌ أنَّه بلغه أن ابن عبَّاسٍ كان يقصُرُ الصَّلاة فيما بين مكَّة والطائف، وفيما بين مكَّة وجُدَّة، وفيما بين مكَّة وعُسفانَ، قال مالكٌ: وذلك أربعة بُرُدٍ.
          ورُوي أيضًا عن إسماعيل بن عيَّاشٍ، عن عبد الوهَّاب بن مجاهدٍ عن أبيه وعطاء بن أبي رَبَاحٍ، عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((يَا أَهْلَ مَكَّة لا تَقْصُرُوا الصَّلاةَ إلَّا في أَدْنَى مِن أربعة بُرُدٍ، مِن مكَّةَ إلى عُسْفَانَ)). قال البيهقيُّ: وهذا حديث ضعيفٌ، إسماعيل بن عيَّاشٍ لا يُحتجُّ به، وعبد الوهَّاب بن مجاهدٍ ضعيفٌ بمرَّة، والصحيح أنَّ ذلك مِن قول ابن عبَّاسٍ، وأمَّا القاضي أبو الطيِّب مِن أصحابنا فعزاه إلى «صحيح ابن خزيمةَ»، وراجعت «صحيحه»، وهو عزيز الوجود، فلم أجده فيه.
          وأمَّا حديث ابن عمر فأخرجه مسلمٌ وأبو داودَ أيضًا مِن حديث عُبَيد الله عن نافعٍ عنه، ومِن طريق الضَّحَّاك بن عثمان عن نافعٍ عنه ولفظه: ((لا تُسَافر مَسِيرةَ ثَلَاثِ ليالٍ)).
          وأخرجه الإسماعيليُّ من طريق أنس بن عِيَاضٍ عن عُبَيد الله، وأخرجه ابن رَاهَوَيْه عن أبي أسامة عن عُبَيد الله. وأحمد الذي علَّق عنه البخاريُّ: / هو أحمد بن محمَّد بن موسى أبو العبَّاس المروزيُّ المعروف بِمَرْدَويه، مات سنة خمس وثلاثين، كذا هو بخطِّ الحافظ الدِّمياطيِّ، وقال: روى له البخاريُّ والتِّرْمذيُّ والنَّسائيُّ، ثمَّ قال: لا بأس به، ثمَّ قال: وقال الدَّارقطنيُّ: إنَّه أحمد بن محمَّد بن ثابت بن عثمان أبو الحسن المروزيُّ المعروف بابن شَبُّويه، مات بِطَرسُوس سنة ثلاثين ومائتين، روى عنه أبو داود.
          ونقل شيخنا قطب الدين في «شرحه» عن الحاكم أنَّه الأوَّل، ولم يذكره الدَّارقطنيُّ أنَّه في البخاريِّ، ثمَّ ذكر الثاني عن الدَّارقطنيِّ كما ذكره سواء، ولم يذكر الحاكم وابن طاهرٍ أنَّه في البخاريِّ، وذكر أبو الوليد الباجيُّ في «رجال البخاريِّ» ما نصُّه: وقال ابن عَدِيٍّ: أحمد بن محمَّدٍ يروي عن عبد الله عن مَعْمَرٍ، لا يُعرف.
          وذكر الدَّارقطنيُّ حديث نافعٍ عن ابن عمَرَ هذا فقال: يرويه عُبَيد الله عن نافعٍ، عن ابن عمر مرفوعًا.
          وقال يحيى القطَّان: ما أنكرت على عُبَيد الله بن عمر إلَّا حديثًا واحدًا، هذا الحديث، قال: ورواه عبد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر موقوفًا، وخالفه إبراهيم الصَّائغ فرواه عن ابن عمر مرفوعًا، وزاد ألفاظًا لم يأتِ بها غيره.
          قلتُ: عُبَيد الله أجلُّ مِن يحيى بن بكير، وقد روى عنه هذا الحديث كما أخرجه البخاريُّ وغيره، ورواه ابن أبي شَيبةَ في «مسنده» عن ابن نُميرٍ وأبي أسامةَ عن عُبَيد الله عن نافعٍ به.
          وأمَّا حديث أبي هريرة والمتابعة في آخره، فكذا هو ثابتٌ في أكثر نسخ البخاريِّ، وفي بعضها عِن الْمَقْبُرِيِّ بدون أبي هريرة. وقال أبو نُعيمٍ في «مستخرجه»: إنَّه في البخاريِّ بإثباته، وهو حديث مختلَفٌ في إسناده فقيل: عن سعيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبيه عن أبي هريرة، وقيل بإسقاط أبيه كما أخرجه ابن ماجه، وقيل بإسقاط أبي هريرة.
          وأمَّا متابعة يحيى بن أبي كثيرٍ، فذكر أبو مَسْعُودٍ وخلفٌ في «أطرافهما»، وأبو نُعَيمٍ في «مستخرجه» أنَّ البخاريَّ أخرجها عن سعيدٍ عن أبي هريرة. وذكر الحُمَيديُّ فيها وسهيلٌ ومالكٌ بزيادة أبيه، ورواه سُفيان عن يحيى بإثبات أبيه، وذكره البيهقيُّ.
          وأمَّا متابعة مالكٍ فوقع فيها كما وقع في متابعة يحيى، ورواه جماعة «الموطَّأ» عن مالكٍ بإسقاط أبيه. وكان سعيدٌ_ فيما يقولون_ قد سمع مِن أبي هريرة، وسمع مِن أبيه عن أبي هريرة، كذا قال ابن مَعينٍ وغيره، فجعلها كلَّها أحيانًا عن أبي هريرة ورُوي عن مالكٍ بإثباته، وكذا أخرجه أبو داود والتِّرْمذيُّ.
          وقد روى عن مالكٍ الوليد بن مُسْلمٍ مثل رواية بِشر، أخرجها الإسماعيليُّ.
          وأمَّا متابعة سهيلٍ فوقع فيها كما سلف في المتابعتين السالفتين، وقد أخرجه أبو داود والبيهقيُّ مِن طريقه عن سعيدٍ، عن أبي هريرة ولفظه: ((لا تُسَافِرُ امرأةٌ بَريدًا إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)).
          قال ابن عبد البرِّ: وحديث سهيلٍ عن أبيه عن أبي هريرة مضطربٌ إسنادًا ومتنًا، وفي رواية: ((مَسِيرةَ لَيْلَةٍ)) ذكرها ابن عبد البرِّ، واستدرك الدَّارقطنيُّ على الشيخين إخراجه عن ابن أبي ذئبٍ، وعلى مسلمٍ إخراجه عن الليث، وقال: الصواب عن سعيدٍ عن أبي هريرة بإسقاط ذكر أبيه، واحتجَّ بأنَّ مالكًا ويحيى وسهيلًا أسقطوه. قال: والصحيح مِن حديث مسلمٍ إسقاطه وكذا ذكره ابن مَسْعُودٍ كما سلف، وكذا رواه معظم رواة «الموطَّأ» عن مالكٍ.
          قال الدَّارقطنيُّ: ورواه الزَّهرانيُّ والفَرْويُّ عن مالكٍ فقالا: عن سعيدٍ عن أبيه.
          وذكر النَّوويُّ عن خلفٍ في «أطرافه» أنَّ مسلمًا رواه بإثبات أبيه، وكذا رواه أبو داود والتِّرْمذيُّ وقال: حَسَنٌ صحيحٌ مِن طريق بشر بن عمرَ عن مالكٍ عن سعيدٍ عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه أبو داود في الحجِّ عن القَعْنبيِّ، والنُّفَيليُّ عن مالكٍ وجريرٍ كلاهما عن سهيلٍ بإسقاطه، فحصل اختلافٌ ظاهرٌ بين الحفَّاظ في ذكر أبيه، فلعلَّه سمع مِن أبيه عن أبي هريرة، ثمَّ سمعه مِن أبي هريرة نفسه، فرواه تارةً كذا وتارةً كذا، وسماعه مِن أبي هريرة صحيحٌ.
          وقد روى هذا الحديث أيضًا أبو سعيدٍ الخُدريُّ وابن عبَّاسٍ وعمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، أخرج الأوَّل الشيخان ففي لفظ: ((لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ)) وفي لفظ: ((ثلاثًا)) وفي لفظ: ((فَوْقَ ثلاثٍ)) وفي لفظ: ((أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا)).
          وأخرج الثاني الشيخان أيضًا بإطلاق السفر. وأخرج الثالث ابن عبد البرِّ، وقال مثله مقطوعًا على حديث عُبَيد الله بن عمر عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ مرفوعًا بلفظ: ((أنْ تُسَافِرَ مَسِيرةَ ثَلَاثةِ أَيَّامٍ)).
          إذا تقرَّر ذلك، فالكلام على ما في الباب مِن أوجهٍ:
          أحدها: أربعة بُرُدٍ: سِتَّةَ عَشرَ فرسخًا، قال صاحب «المطالع»: البَريد أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، زاد ابن الأثير في «غريبه»: والميل أربعة آلاف ذراعٍ، وذكر الفرَّاء أنَّ الفرسخ فارسيٌّ معرَّبٌ، والميل مِن الأرض: منتهى مدِّ البصر، لأنَّ البصر يميل فيه على وجه الأرض حتَّى يفنى إدراكه، وفيه سبعة مذاهبَ:
          أحدها: قاله صاحب «التنبيهات»: هو عشر غلا، والغَلْوة: طَلَق الفرس وهو مائتا ذراعٍ، فيكون الميل ألفي ذراعٍ، وذكر في «المغرب» أنَّ الغَلْوة ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة. وقال ابن الأثير: الغَلْوة قَدْر رمية سهمٍ.
          الثاني: قال أبو عمر: أصحُّ ما فيه أنَّه ثلاثة آلاف ذراعٍ وخمسمائة.
          الثالث: ثلاثة آلاف ذراعٍ، نقله صاحب «البيان».
          الرابع: أربعة آلافٍ.
          الخامس: مدُّ البصر، ذكره الجوهريُّ.
          السادس: ألف خطوةٍ بخطوة الجَمَل.
          السابع: أن ينظر إلى الشخص فلا يُعلم أهو آتٍ أو ذاهبٌ، رجل أو امرأة.
          وذكر ابن قُدَامةَ عن الأثرم: قيل لأبي عبد الله: / في كم يقصُرُ؟ قال: في أربعة بُرُدٍ، قيل له: مسيرة يوم تامٍّ؟ قال: أربعة بُرُدٍ ستَّةَ عشرَ فرسخًا، مسيرة يومين، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل _كما قال القاضي_ اثنا عشر ألف قدمٍ، وذلك يومان.
          الثاني: ظاهر الأحاديث الواردة في الباب حُرمة ما يُسمَّى سفرًا للمرأة إلَّا مع زوجٍ أو مُحْرَمٍ، وفي معنى ذلك النسوة الثِّقات، وكذا الواحدة في الجواز على الأصح، فالْمَحْرَمُ إذن شرطٌ في وجوب الحجِّ عليها، وبه قال النَّخَعيُّ والحسنُ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ وأصحابِ الرأي وفقهاء أصحاب الحديث وأجلُّهم الشافعيُّ، وذهب عطاءٌ وسعيدُ بن جُبَيرٍ وابن سيرينَ والأوزاعيُّ ومالك _وعُزيَ إلى الشافعيِّ أيضًا_ إلى أنَّ ذلك ليس بشرطٍ، ورُوي مثله عن عائشة.
          وقال القرطبيُّ: ظاهر قول مالكٍ على اختلافٍ في تأويل قوله: تخرج مع رجالٍ أو نساءٍ، هل بمجموع ذلك، أو في جماعةٍ مِن أحد الجنسين؟ وأكثر ما نقله عنه أصحابنا مِن اشتراط النِّساء وسبب هذا الاختلاف مخالفة ظاهر هذه الأحاديث لظاهر السبيل في الآية.
          وأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّ المرأة تلزمها حَجَّة الإسلام بهذه الآية وبقوله: ((بُني الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ)) وَعَدَّ منها الحجَّ، فتعارضت مع الأحاديث الواردة في الباب: لا تسافر إلَّا مع كذا.
          واختلف العلماء في تأويل ذلك، فجمع أبو حنيفة ومَن قال بقوله بينهما بأن جعل الحديث مُبَيِّنًا للاستطاعة في حقِّ المرأة، ورأى مالكٌ ومَن قال بقوله أنَّ الاستطاعة سُنَّةٌ بنفسها في حقِّ الرجال والنساء، وأنَّ الأحاديث المذكورة في هذا لم تتعرَّض للأسفار الواجبة، وقد خرجت المؤمنات مهاجراتٍ ليس معهنَّ مُحْرَمٌ، وفيهنَّ زينب بنت رسول الله صلعم، وقد اشترط مالكٌ خروجها للحجِّ في جماعة الناس المرافقين بأُلفة الدِّين في سفر الطاعة لله، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سنَّ ◙بأمير أو سلطان محافظٍ وإمامٍ معلِّم يحفظ الضيعة ويضمُّ الفاذَّة، ويردُّ الشاردة، ولا ينفرد أحدٌ عن الجماعة، ولا تتَّفِقُ الأعين كلُّها على الغفلة، ولا يجمع على النوم في وقتٍ واحدٍ، فلا بدَّ من وجود المراقبة مِن الجماعة، فضعُف الخوف بحضور الكثرة.
          واتَّفق العلماء على أنَّه ليس لها أن تخرج في غير الحجِّ والعمرة إلَّا مع ذي مَحْرَمٍ، إلَّا الهجرة من دار الحرب، فاتَّفقُوا على أنَّ عليها أن تهاجر منها بغير مَحْرَمٍ، والفرق لائحٌ وهو أنَّها تخشى على نفسها ودينها مِن الإقامة، بخلاف تأخير الحجِّ مع أنَّه هل هو على الفور، أو على التراخي؟ وخصَّ الباجيُّ الحديث بالشابَّةِ، ورُدَّ عليه بأنَّ المرأة مظنَّة الطمع، ولكلِّ ساقطةٍ لاقطةٌ.
          الثالث: قوله: (ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) وفي الرواية الأخرى: <يوم وليلة> وفي أخرى: <فوق ثلاث> وفي أخرى: <ثلاث ليال> وفي أخرى <يومين> وفي أخرى: <يوم> وفي أخرى: <ليلة> وفي أخرى: إطلاق السفر، وفي أخرى: لأبي داودَ: ((بَريدًا))، والبريد: نصف يومٍ.
          وهذه الألفاظ لاختلاف السائلين والمواطن، وليس في النهي عن الليلة تصريحٌ بإباحة اليوم أو الليلة أو البريد، فأدَّى كلٌّ ما سمع وما جاء منها مختلفًا مِن راوٍ واحدٍ، فسمعه في مواطن فروى تارةً هذا وتارةً هذا، وكلُّه صحيحٌ، وليس فيه تحديدٌ لأقلَّ ما يقع عليه اسم السفر، ولم يُرِدْ ◙ تحديدًا، بل ما يُسمَّى سفرًا، ولا تعارض ولا نسخ، خلافًا لقول الدَّاوديِّ: أحدها ناسخٌ للآخر، ولا نعلمه بعينه فأخذ بالأحوط لأنَّ الأصل أنْ لا تسافر المرأة أصلًا، ولا تخلو مع غير ذي مَحْرَمٍ، خوف الخشية على ناقصات العقل والدِّين.
          وحديث ((أَمَرَ فَاطِمَةَ أَنْ تَعْتدَّ عِنْدَ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)) مخصوصٌ بمَن عُلم صلاحه، كذا قاله ابن التِّين، وقيل في الجمع بأنَّ اليوم المذكور مفردٌ، والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين، فاليوم إشارة إلى مدَّة الذهاب، واليوم والليلة إشارةٌ إلى مدَّة الذهاب والرجوع، والثلاثة إشارةٌ إلى مدَّة الذهاب والرجوع واليوم الذي يُقضى فيه الحاجة، وقيل قد يكون هذا كلُّه تمثيلًا لأقلِّ الأعداد، فاليوم الواحد أوَّلُ العدد وأقلُّه، والاثنان أوَّلُ التكثير وأقلُّه، والثلاث أقلُّ الجمع.
          الرابع: جميع المحارم سواء النَّسب والسبب كالرضاع والمصاهرة، وكره مالكٌ سفرها مع ابن زوجها لفساد النَّاس بعد العصر الأوَّل، ولأنَّ كثيرًا مِن الناس لا ينفرون مِن زوجة الأب نفرتهم مِن محارم النَّسب، والزوج أولى مِن الْمَحْرَم لاطِّلاعه على ما لا يُطَّلع عليه، وعدم ذكره في بعض الروايات خطابٌ لمن لا زوج لها.
          وقال أبو حنيفة: لا تخرج إلَّا مع ذي مَحْرَمٍ، إلَّا أن يكون بينها وبين مكَّة أقلُّ مِن ثلاثة أيَّامٍ.
          الخامس: قوله: (تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) هو في موضع خبرٍ، لأنَّه صفة امرأة، تقديره: لامرأةٍ مؤمنةٍ بالله. وفيه تعريضٌ أنَّها إذا سافرت بغير مَحْرَمٍ تخالف شرط الإيمان وبالله واليوم الآخر، لأنَّ التعرُّض إلى وصفها بذلك إشارةٌ إلى التزام الوقوف عند ما نُهيت عنه، وأنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يقضي لها ذلك.
          وقوله: (أَنْ تُسَافِرَ) هو في موضع رفعٍ لأنَّه فاعل، التقدير: لا يحلُّ لها السَّفر، والهاء في (مَسِيرَةَ يَوْمٍ) للمرة الواحدة، التقدير: أن تسافر مرَّةً واحدةً سفرةً واحدةً بخصوصية يوم وليلةٍ. /