التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب

          ░16▒ بَابُ إذا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.
          1112- ذكر فيه حديث أنسٍ المذكور.
          وأجمع العلماء على أنَّه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشَّمس فإنَّه يؤخِّر الظهر إلى العصر كلٌّ على أصله مِن القول بالاشتراك أو يُقِيم.
          واختلفوا في وقت جمع المسافر بين الصلاتين، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّه يجمع بينهما في وقت إحداهما، هذا قول عطاء بن أبي رباحٍ وسالمٍ، وجمهور علماء المدينة ابن أبي الزِّنَاد وربيعة وغيرهم، وحُكي / عن مالكٍ أيضًا، وبه قال الشافعيُّ وإسحاقُ قالوا: إن شاء جمع بينهما في وقت الأولى، وإن شاء جمع في وقت الآخرة.
          وقالت طائفةٌ: إذا أراد المسافر الجمع أخَّر الظهر وعجَّل العصر، وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء، رُويَ هذا عن سعد بن أبي وقَّاصٍ وغيره كما سلف، وإليه ذهب أحمد، وقال: وجه الجمع أن يؤخِّر الظهر حتَّى يدخل وقت العصر، ثمَّ ينزل فيجمع بينهما، ويؤخِّر المغرب كذلك، فإن قدَّم فأرجو أن لا يكون به بأسٌ، وقال أبو حنيفةَ وأصحابه: يصلِّي الظهر في آخر وقتها ثمَّ يمكث قليلًا، ثمَّ يصلِّي العصر في أوَّلِ وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما في غير عَرَفة ومزدَلِفة.
          وحُجَّة الأولين حديث أنسٍ السالف، فإنَّ معنى (صلَّى الظهر) أي: ثمَّ العصر وركب، فإنَّه كان يؤخِّر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ، فكذا يقدِّمها إذا زاغت، وعلى ذلك تأوَّلوا حديث ابن عبَّاسٍ السالف أيضًا أنَّه كان إذا زاغت الشَّمس.
          ومِن حُجَّة أبي حنيفة وأصحابه أنَّه ◙ لم يؤخِّر الجمع إلى وقت العصر إلَّا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشَّمس خاصَّةً، وأمَّا إذا ارتحل بعد أن تزيغ فإنَّه كان يجمع في أوَّل وقت الظهر ولا يؤخِّر الجمع إلى العصر، فهذا خلاف الحديث والآثار، وأثبتها في ذلك حديث معاذٍ السالف، فبان أنَّهُ كان يجمع بينهما مرَّةً في وقت الظهر ومرَّةً في وقت العصر، وكذا المغرب مع العشاء، وكذا قول أنسٍ: ((أنَّهُ ◙ كَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ العَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ)) مخالفٌ لهم أيضًا لأنَّهم لا يجيزون صلاة الظهر في وقت العصر في الجمع، ومِن طريق النظر لو كان كما قالوا لكان ذلك أشدُّ حرجًا وضيقًا مِن الإتيان بكلِّ صلاةٍ في وقتها لأنَّ وقت كلِّ صلاةٍ واسعٌ، ومراعاته أمكن مِن مراعاة طرفي الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب وبين العشاء والفجر، ولـمَّا أجمع العلماء أنَّ الجمع بينهما لا يجوز عُلِمَ أنَّ المعنى في الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إنَّما وردت به السُّنَّة للرُّخصة في اشتراك وقتيهما، فإذا صُلِّيتْ كلُّ صلاة في وقتها فلا يُسمَّى جمعًا، وليس في حديث أنسٍ تقديم العصر إلى الظهر إذا زاغت وذلك محفوظٌ في حديث معاذٍ السالف وهو قاطعٌ للالتباس فإنَّ الجمع بينهما إذا زاغت نازلًا كان أو سائرًا جدَّ به السير أو لم يجدَّ على خلاف ما تأوَّلَه المخالف، وهو حُجَّةٌ أيضًا على مَن أجاز الجمع، وإذا لم يجدَّ به السير.
          وارتكب الدَّاوديُّ مذهب المخالف فقال: هذا هو المعمول به، يصلِّي الظهر آخر وقتها، والعصر ليس أوَّل وقتها، وليس ما قيل: إنَّه يجمع إذا ارتحل بعد الزوال بينهما حينئذٍ بشيء، قال: وإنَّما تعلَّق مَن قاله بجمع عرفة. قال: وتلك سُنَّةٌ لا يُقاس عليها، ولا شكَّ أنَّ الصَّحابة قصدت برواياتهم الإخبار عن صِفةٍ يختصُّ بها السفر، وما ذكره المخالف يمكن في الحَضَر مثله، فلا خصوصية إذن، وقد اعتنى بالصلاة آكد مِن الوقت، وقد أثَّر السَّفر في ترك البعضِ، فالوقت أولى.