التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: يصلي المغرب ثلاثًا في السفر

          ░6▒ بَابُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا في السَّفَرِ.
          1091- 1092- ذكر فيه حديثَ شُعَيبٍ (عَن الزُّهريِّ أخبرني سَالِمٌ، عن عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العِشَاءِ).
          (وزاد اللَّيْثُ: حدَّثَني يُونُسُ، عن ابن شِهَابٍ، قال سَالِمٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ... ثمَّ ساق الحديث.
          الشرح: أمَّا الحديث الأوَّل فأخرجه مسلمٌ أيضًا، قال الإسماعيليُّ: وهو غير مشبهٍ لترجمة الباب، فإنَّه ليس فيه بيان عدد المغرب، قال: وفي حديث عائشةَ بيانه.
          وأمَّا الثاني فقال الإسماعيليُّ: رواه أبو صالح عن الليث هكذا، فكأنَّه _يعني: البخاريَّ_ لم يستجز في هذا الكتاب أن يروي عنه إلَّا أنَّه رأى أنَّ الإرسال عنه كأنَّه أقوى، قال: وهذا أمرٌ عجيبٌ إذا جُعل إرساله هذا عن ضعيفٍ يصحِّح ترجمةً بقصدِه مِن الباب، وذكره لذلك، وروايته عنه لهذا الحديث غير مصحِّح ترجمة بابه. ثمَّ ساقه مِن حديث أبي صالح حدَّثنا الليث بهذا، لا على هذا الطول ولكن قال: إنَّ ابن عمر قال: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم إِذَا أَعْجَلَهُ يُقِيمُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّيها ثَلاثًا..)) ثمَّ ذكر باقي الحديث إلى قوله: ((وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ العِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)). قال: وقال القاسم _أحدٌ رواته_: حتَّى جوف الليلِ. ولم يقل: يقوم، ولا يقيم.
          وأخرج مسلمٌ مِن حديث يونس عن ابن شهابٍ عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنَّه جمع رسول الله صلعم، وفيه: ((وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ)).
          ومِن حديث سعيد بن جُبَيرٍ عن ابن عُمَرَ مثله، وسيأتي للبخاريِّ من حديث أسلمَ عن ابن عمر في الجمع أيضًا [خ¦1805].
          وروى أحمد مِن حديث ثُمامة بن شَرَاحيلَ قال: خرجتُ إلى ابن عمر، فقلت: ما صلاةُ المسافرِ؟ قال: ركعتين ركعتين إلَّا صلاةَ المغرب ثلاثًا.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عليه مِن أوجهٍ.
          أحدها: قوله: (إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ) كذا هنا، وفي روايةٍ أخرى: <عجَّل به السير> وأخرى: <عجل في السير> وأُخرى: <عجل به أمر> وأخرى: <أعجله السفر> وأخرى: <حزبه أمر>. وكلُّها مُتَّفقة المعنى ومقاربة.
          وقوله: (أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ) فيه زيادةُ إيضاحٍ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ السَّير لم يكن في سفرٍ، والمراد سفر القصر لقرينة أحكام القصر والجمع والفطر ولئلَّا يُظنَّ أنَّهُ كان في ضواحي البلدة ومتنزَّهاتها، فإنَّه يُسمَّى سيرًا لا سفرًا، ولأنَّه قد قيل: إنَّ السير أحد ما يشتمل عليه اسم السفر، فأضاف لفظ السير إليه ليزول هذا الوَهَم.
          الثاني: فيه الجمع بين المغرب والعشاء، وسيأتي في بابه [خ¦1109].
          الثالث: قوله: (وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ) صفيَّةُ هذه زوج عبد الله بن عُمرَ كما صرَّح به، وجدُّها مَسْعُودٌ، الثقفيَّةُ، أخت المختار بن أبي عُبَيد، تابعيَّةٌ ثقةٌ، استشهد بها البخاريُّ، وأخرج لها الباقون سوى التِّرْمذيِّ، وعُمِّرت أزيد مِن ستِّين عامًا، وكان أصابها شدَّة وجعٍ فكتبت إليه كما أخرجه النَّسائيُّ: وهو في زراعةٍ له: إنِّي في آخر يومٍ مِن الدنيا، وأوَّل يومٍ مِن الآخرة، وفي رواية: خرج في سفرٍ يريد أرضًا له، فأتاه آتٍ فقال: إنَّ صفيَّةَ بنتَ أبي عُبَيدٍ لَمَّا بها، فانظر أن تُدركها، فخرج مُسْرِعًا ومعه رجلٌ مِن قريشٍ يسايره.
          الرابع: قوله: (فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةَ، فَقَالَ: سِرْ).
          فيه ما كانوا عليه مِن مراعاة الأوقات خوفًا أن يكون نسي ابن عمر فذكَّره سالمٌ.
          وفيه جواز تأخير البيان لقوله: (سِرْ) مرَّتين، ثمَّ بعد ذلك بيَّن له بعد الصَّلاة.
          الخامس: قوله: (يُقِيمُ المَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلاَثًا) فيه ما ترجم له وهو أنَّها لا تُقصر، وهو إجماعٌ، قال المهلَّب: لأنَّها وترُ صلاة النهار، ولم يزد في الفجر لطول قراءتها، وقد رُوي هذا عن عائشةَ كما أخرجه البيهقيُّ. ومراده بالوتر: وتر النهار، فلو قصرت منها ركعة لم يبقَ وترًا، وإن قصرت اثنتان صارت ركعةً، فيكون إجحافًا وإسقاطًا للأكثر، وذكر ابن أبي صُفْرة أنَّ المغربَ وحدها فُرضت ثلاثًا، بخلاف باقي الصلوات فُرضت ركعتين ركعتين.
          وفي البيهقيِّ عن أنسٍ: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى بنا ركعتينِ ركعتينِ، إلَّا المغربَ حتَّى رَجَعْنَا إلى المدينةِ)).
          السادس: فيه القصر في السَّفر المباح غير الحجِّ والجهاد، كما وقع لابن عمَرَ أنَّه خرج لأرضٍ له وفعله ونقل فعل ذلك عن الشارع وهو مذهب جماعة الفقهاء، وأبعد أهل الظاهر فخصُّوه بهما وهو مرويٌّ عن ابن مَسْعُودٍ، وابن عمر روى السُّنَّة في ذلك عن الشارع وفهم عنه معناها، وأنَّ ذلك جائزٌ في كلِّ سفرٍ مباحٌ، أَلَا ترى قوله: ((هَكَذا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم إذا أَعْجَلَهُ السَّيرُ يَفْعَلُ)). وهذا عامٌّ في كلِّ سفرٍ، فمَن ادَّعى الخصوص فعليه البيان، ويُقال لهم: إن الله تعالى قد قرنَ بين أحوال المسافرين في طلب الرزق، وفي قتال العدو في سقوط قيام الليل عنهم، فقال تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [المزمل:20]، فلمَّا سوَّى بينهم تعالى في سقوط قيام الليل وجب التسوية بينهم في استباحة رُخصة القصر في السفر، وهذا / دليلٌ لازمٌ.
          السابع: قوله: (ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ العِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ) قال الحُمَيديُّ: هكذا في زيادة اللَّيث، وفي رواية شعيبٍ عن الزُّهريِّ أنَّ ذلك عن فعل ابن عمر مِن قول الراوي: (ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ) لم يسنده، ورواية شعيبٍ هنا ليس فيها هذا، وقد جاء في بعض طُرق الحديث: <أنَّه كان صلاته بعد غروب الشَّفق>، وفي رواية: ((ومعه _يعني ابن عمر_ رجلٌ مِن قريش يسايره، وغابت الشَّمس فلم يقل: الصَّلاة، وعهدي به وهو حافظ على الصَّلاة، فلمَّا أبطأ قلنا: الصَّلاةَ يرحمك الله، فالتفت إليَّ ومضى حتَّى إذا كان آخر الشَّفق نزل فصلَّى المغرب، ثمَّ أقام العشاء وقد توارى الشَّفق، فصلَّى بنا ثمَّ أقبل علينا)). وفي أخرى عن ابن عمر: ((ما جَمَعَ رَسُول الله صلعم قطُّ بين الْمَغْرِبِ والعِشَاءِ في سفرٍ إلَّا مرَّةً)).
          قال أبو داود: هذا يُروى عن أيُّوب عن نافع موقوفًا على ابن عمر، لم نَر ابن عمر جمعَ بينهما قطُّ، إلَّا تلك الليلةَ، يعني ليلة استُصرِخَ على صفيَّةَ، وفي رواية ((أفعل ذلك مرَّةً أو مرَّتين)). وفي رواية واقد: ((حتَّى إذا كانَ قبلَ غُروب الشَّفق نزلَ فصلَّى المغربَ، ثمَّ انتظر حتَّى غاب الشَّفقُ، فصلَّى العِشَاء ثمَّ قالَ: إنَّ رَسُولَ الله صلعم كان إذا عَجِلَ به أمرٌ صنعَ مثل الذي صنعت، فسار في ذلك اليوم والليلة مسيرةَ ثلاثٍ)).
          الثامن: قوله: (وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ العِشَاءِ) فيه أنَّ السُّنن لا تُصلَّى في السفر، وقد عقد لذلك البخاريُّ باب: مَن لم يتطوَّع في السَّفر، ويأتي.
          التاسع: فيه أنَّ قيام الليل كان لا يتركه سفرًا، فالحَضَر أولى، وهو مِن خصائصه، والأصحُّ أنَّه ما مات حتَّى نُسخ عنه.
          فرع: في قوله: (إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ) قال مالكٌ في «المدوَّنة»: إذا جدَّ به السَّير وخاف فوات أمرٍ جمع بين المغرب والعِشَاء في أوَّل وقتها، وهذا إذا لم يرتحل عند الزوال والغروب، فإن ارتحل بعدهما فيجمع حينئذٍ، ولا يكون الجمع إلَّا بين صلاتين مشتركتين في الوقت.
          فرع: حدُّ الإسراع الذي شُرع فيه الجمع مبادرة ما يُخاف فواته، والإسراع إلى ما يهمُّه. قاله أشهبٌ.
          فرع: يختصُّ الجمع بالسفر الطويل خلافًا للمالكيَّةِ.
          فرع: هذا الجمع لضرورة قطع السفر، فأمَّا الجمع للمطر فجائزٌ عندنا تقديمًا لا تأخيرًا، بشروطٍ تُذكر في كُتُب الفروع، وبغير عُذرٍ لا يجوز عند الجمهور، فإن فعل أعاد الثانية أبدًا عند ابنِ القاسم.
          وقال أشهب: أحبُّ أن لا يجمع بين الظهر والعصر إلَّا بعرفة، وأبو حنيفة منع الجمع إلَّا بعرفة والمزْدَلِفة. دليلنا حديث معاذ ((أنَّه ◙ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا زَاغَت الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فإن رحلَ قبلَ أن تزيغَ أخَّر الظُّهْرَ حتَّى ينزل العصر، وفي المغرِبِ والعِشَاءِ كذلك)). حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبو داودَ والتِّرْمذيُّ وحسَّنه، وصحَّحه ابن حبَّانَ.
          قال ابن التِّين: والجمع بين الظهر والعصر على وجهين:
          أحدهما: أن يرتحل عند الزوال فيجمع حينئذٍ.
          والثاني: أن يرتحل قبله فيؤخِّر الظُّهْرَ إلى آخر وقتها، ثمَّ يصلِّي العصر في أوَّل وقتها، ثمَّ قال: ودليله حديث معاذٍ المتقدِّم، والحديث المذكور لا يطابقه.
          فائدة: قال الدَّاوديُّ في رواية شعيبٍ عن ابن عمر أنَّه ◙ جمع بينهما، وفي رواية الليث: بمزدَلِفة. وقال ابن عمر: إذا أعجله السير يصلِّي المغرب ثلاثًا ثمَّ يُسَلِّم، ثمَّ قلَّ مَا يلبث حتَّى يقيم العشاء. وهذه أحوال: جمع مرَّةً، وأخَّر العشاء مرَّةً، وأمَّا الجمع بمزدَلِفة فبعد مغيب الشَّفق للصلاتين.