التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صلاة الكسوف جماعة

          ░9▒ بَابُ صَلَاةِ الكُسُوفِ جَمَاعةً.
          وصلَّى ابن عبَّاسٍ لَهُم في صُفَّةِ زَمْزَمَ، وَجَمَعَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، وَصَلَّى ابنُ عُمَرَ.
          1052- ثمَّ ذكر فيه حديث عطاء بن يَسَار عن ابن عبَّاسٍ قال: (انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ...) الحديث.
          الشرح: أمَّا فعل / ابن عبَّاسٍ فأخرجه ابن أبي شَيبة، عن غُنْدَرٍ عن ابن جُرَيجٍ عن سُليمان الأحول، عن طاوس أنَّ الشَّمس انكسفت على عهد ابن عبَّاسٍ، فصلَّى على صُفَّة زَمْزَمَ ركعتين، في كلِّ ركعة أربع سجداتٍ، ورواه الشافعيُّ عن سُفيان عن سُليمان الأحول به، وقال: ستُّ ركعاتٍ في أربع سجداتٍ.
          قال البيهقيُّ: رُوي عن عبد الله بن أبي بكرٍ عن صَفْوَان بن عبد الله بن صَفْوَان قال: رأيتُ ابن عبَّاسٍ صلَّى على ظهر زمزم في كُسُوف الشَّمس ركعتين، في كلِّ ركعةٍ ركعتين.
          قال الشافعيُّ: إذا كان عطاء وعَمْرٌ وصفوان والحسن يروون عن ابن عبَّاسٍ خلاف ما روى سُليمان الأعمش كانت رواية ثلاثة أولى أن تُقبل، ولو ثبت عن ابن عبَّاسٍ أشبه أن يكون ابن عبَّاسٍ فرَّق بين خسوف الشَّمس والقمر وبين الزلزلة، فقد رُوي أنَّه صلَّى ثلاث ركعاتٍ في كلِّ ركعةٍ.
          وقال ابن التِّين: صُفَّة زمزم مؤخَّره، قيل: كانت أبنية، فصلَّى فيها ابن عبَّاسٍ.
          وعليُّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ تابعيٌّ ثقةٌ روى له مسلمٌ والأربعة، وُلد ليلةَ قُتِلَ عليٌّ، وكان أجملَ قرشيٍّ في الدُّنيا. وقال عليُّ بن أبي حَمَلَة: كان يسجد كلَّ يومٍ ألف سجدةٍ، ورأيتُه آدم جسيمًا بين عينيه أثر السجود، مات سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة إحدى عشرة ومائة بالبلقاء.
          وأثر ابن عمر كأنَّه يريد ما أخرجه ابن أبي شَيبة عن عاصم بن عُبَيد الله قال: رأيتُ ابنُ عُمَر يُهَرْوِلُ إلى المسجِدِ في كُسُوفٍ ومعَهُ نَعْلاهُ يعني: لأجل الجماعة.
          وأمَّا الحديث فأخرجه في بدء الخلق والنِّكاح وأخرجه مسلمُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ أيضًا، ووقع في بعض نسخ أبي داود عن عطاءٍ عن أبي هُرَيرةَ، وهو وَهْمٌ كما نبَّه عليه ابن عساكر.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: قوله: (انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ) كذا هنا، وفي مسلمٍ: ((انكسفت))، وهنا: (لاَ يَخْسِفَانِ) وفي مسلمٍ: ((يَنْكَسِفَانِ)).
          وقوله: (فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا) سببه _والله أعلم_ طول زمن الكسوف، وفي حديث عائشة: ((فَأَطالَ القِرَاءةَ)).
          وقوله: (نَحْوًا مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ) وفي مسلمٍ: ((قَدْرَ سُورةِ البَقَرةِ)) وفي بعض نسخ البخاريِّ: <نحوًا مِن قيام سورة البقرة> وهو دالٌّ على استحباب ذلك، وأنَّ القراءة كانت سرًّا، وفي رواية عائشة: ((فحزرت قِرَاءَتَهُ، فرأيتُ أنَّه قَرَأَ سُوْرَةَ البَقَرةِ)). والحَزْر والنحو يُوْهِم عدم السَّماع، وكونها سرِّية، وقد يُقال: كان ابن عبَّاسٍ صغيرًا ومقامه آخر الصُّفوف، فاحتاج إلى الحَزْر.
          وبالسِّرِّ فيها قال مالكُ والشافعيُّ والكوفيُّون كما ستعلمه في موضعه.
          الثاني: (تَكَعْكَعْتَ) معناه عند أهل اللغة: احتبستَ وتأخَّرتَ ورائي، يُقال: كعَّ الرجل، إذا نكصَ على عَقِبيه. وعند الفقهاء: تقهقرت، وكلٌّ قريبٌ، أصل تكعكع تكعَّع فأُدخلت الكاف لئلَّا يُجمع بين حرفين متماثلين، كذا ذكر الخطَّابيُّ، وهو في الحقيقة ثلاثة أحرفٍ مثل دسَّاها أصله دسَّسَها، فأُبدلت مِن إحدى السينات ياءً لئلَّا تجتمع ثلاثة أحرفٍ، وكذا كُبكِبوا أصله: كُبِّبوا فاجتمع ثلاث باءاتٍ، أُبدلت مِن الوسطى كافًا كذلك أبدل العين الوسطى كافًا، وهي عين الفعل ويُقال: كاع يكيع، وأصله: مِن الجبن، يجمع الرجل عن الأمر إذا حُبس وتأخر.
          الثالث: فيه أنَّ الجنَّة مخلوقةٌ إذ ذاك، وأنَّ فيها ثمارًا موجودةً، وكذا النَّار حقيقة ببينة التناول الذي رأوه يفعله، وإخبار الصَّادق حقٌّ لا شكَّ فيه ولا مِرية، فخلقَ الربُّ جلَّ جلاله له إدراكًا أدركهما به في جهة الحائط الذي أشار إليه، كما فرَّج له عن بيت المقدس ليلة الإسراء، فجعل يُخبرهم عنه.
          وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:75] قال: فُرجت له السَّماوات حتَّى نظر إلى ما فيهنَّ حتَّى انتهى بصره إلى العرش، وفُرجت له الأرضون السَّبع فنظر إلى ما فيهنَّ. وإنَّما لم يأخذ العنقود لأنَّ طعام الجنَّةِ باقٍ أبدًا لا يفنى، ولا يكون شيءٌ مِن دار البقاء في دار الفناء، وقد قدَّر الربُّ جلَّ جلاله أنَّ رزق الدُّنيا لا يُنال إلَّا بتعبٍ ونصبٍ، فلا يُبدَّل القول لديه، وأيضًا فطعام الجنَّةِ شوَّق الربُّ إليه عبادَه ووعدهم به جزاءً لأعمالهم الصَّالحة، والدُّنيا ليست دار جزاءٍ، ولذلك لم يأخذه.
          وقوله: (لَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا) يريد أنَّهم كانوا يأكلون منه، ويأكل منه مَن بعدهم حتَّى تنقضي الدُّنيا، لأنَّه كان لا يفنى ولا ينقطع بموته.
          و(لو) عند العرب لامتناع الشيء بامتناع غيره كقوله: ((لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ)) ولا سبيل إلى أن يكون بعده نبيٌّ، كما لا سبيل إلى أن يكون عُمَرُ نبيًّا.
          وروى ابن عبد البرَّ بإسناده إلى عُتبة بن عبدٍ السُّلميِّ حديثًا فيه أنَّ أعرابيًا سألَ رسول الله صلعم عن عِظَم عنقود الجنَّة، فقال له: ((مَسِيرةُ الغُرَابِ شَهْرًا لا يَقَعُ ولا يَعْثُرُ)).
          وقوله: (وَأُرِيتُ النَّارَ) كذا هنا، في الجنَّة (رَأَيتُ)، وفي النار (أُرِيتُ).
          أمَّا (رَأَيتُ): فإنه فعل مسمَّى الفاعل وفاعله الرائي، كأن في الجنَّةِ عُرضت له ولا حائل بينه وبينها، فوقع بصره عليها فرآها، وأمَّا (أُرِيتُ) فإنَّهُ فعل ما لم يُسمَّ فاعلُه، وقد أُقيم المفعول الذي هو الرائي على الحقيقة مقام الفاعل، فكأنَّ الجنَّةَ عُرضت عليه ثمَّ كُشِف عن بصره فرآها، ورؤياه النَّار كان مِن الباب الذي يدخل منه العصاة مِن المسلمين.
          وقوله: (فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ) الكاف في (كَاليَومِ) موضع نصب، التقدير: فلم أرَ منظرًا مثل منظرَي اليوم.
          (وأفظعَ) بالفاء والظاء المعجمة أي أهولَ وأشدَّ، ووقع في موضعٍ مِن «المطالع» بالضاد المعجمة.
          الرابع: قوله: (قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ) كذا في البخاريِّ بالواوِ في (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ) وأثبتها يحيى بن يحيى عن مالكٍ، ورواية الْقَعْنَبِيِّ وابن القاسم وابن وهبٍ، وأكثر الرواة حذفها لِمَا فيه مِن إثبات الكفر لَهنَّ بالله، ولعلَّه إخبارٌ عن أكثرهنَّ لا عن الكلِّ.
          وأُجيب عن رواية يحيى بن يحيى بأنَّ السَّائل لَمَّا قال: أيكفُرنَ بالله؟ لم يُجِب عنه لإحاطة العلم بأنَّ منهنَّ مَن يكفر كالرجال، / فلم يحتج إلى ذلك لأنَّ المقصود مِن الحديث غيره.
          فإن قلت: إذا كان أكثر أهلها النِّساء، كيف يلتئم مع حديث أبي هريرة: ((إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجنَّةِ مَن لَهُ زَوْجَتَانِ مِن الدُّنْيَا)) ومقتضاه أنَّ النِّساء ثُلثا أهل الجنَّة؟ فالجواب أن يُحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهنَّ مِن النَّار، أو خرج مخرج التغليظ والتخويف، وفي هذا نظرٌ لأنَّه أخبر أنَّ الرؤية حاصلة.
          وأجاب بعضهم بأنَّه لعلَّه مخصوصٌ ببعض النِّساء دون بعضٍ، وقد سلف طرف مِن شرح الحديث في الحيض.
          تنبيهات:
          أحدها: سُنَّة صلاة الكسوف أن تُصلَّى جماعةً، وهو ما عقد له البخاريُّ الباب، وفي المسجد للاتباع، فإن تخلَّفَ الإمام عنها فليقدِّمُوا مَن يصلِّي بهم جماعة، وبه قال مالك والشافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ، وقد صلَّى عبد الرحمن بن أبي ليلى وسُليمان التَّيميُّ، كلُّ واحدٍ منهما بأصحابه.
          وفي «المدوَّنة»: يُصلِّيها أهل القرى والمسافرون بإمامٍ، إلَّا أن يُعجل بالمسافرين السَّير، فتصلِّيها المرأة في بيتها. وقال أشهب: ومَن لم يقدر أن يصلِّيَها مع الإمام مِن النِّساء والضعفاء، فإنَّهم يصلُّونها فُرادى وبإمامٍ، وكره أبو حنيفة والثوريُّ أن يجمع النِّساء، وقال: يصلُّون وحدانًا ولا يجمعهنَّ رجلٌ.
          وقول مَن استحبَّ الجماعة فيها للنِّساء وغيرهنَّ أولى، لأنَّ سنَّتها الجماعة لكلِّ مَن صلَّاها فكذلك النِّساء، وأغرب بعضهم فجعل الجماعة فيها شرطًا كالجمعة، حكاه إمام الحرمين عن الصَّيدلانيِّ، والذي في كتابه حكاية وجهين في أنَّها هل تُصلَّى في كلِّ مسجدٍ أو لا تكون إلَّا في جماعةٍ واحدةٍ كالخلاف في العيد.
          ثانيها: اختلف العلماء في صِفة صلاة الكسوف، وقد سلف أوَّل الباب الخلاف فيها، وقد رُويت في صلاة الكسوف أحاديث مختلفة، فقال بها قومٌ مِن الفقهاء، وزعم بعضهم أنَّ القولَ بها كلِّها جائزٌ لأنَّه صلعم صلَّى الكسوف مرَّاتٍ كثيرة، وخيَّر أمَّته في العمل بأيِّ ذلك شاؤوا، منها أنَّه صلَّى ثلاث ركعاتٍ في ركعةٍ، وأربعًا في ركعةٍ، وخمسًا في ركعةٍ، وستًّا في ركعةٍ، وثمانيًا في ركعةٍ لأنَّه كان يزيد في الركوع إذا لم يرَ الشَّمس تنجلي، فإذا انجلت سجد فيها، فمِن هنا زيادة الركعات، فيُقال لهم: أكثر تلك الأحاديث ضِعافٌ، وأصحُّ ما في أحاديث صلاة الكسوف ما ذكره البخاريُّ، وما رواه مالك في «الموطَّأ»، وبه قال أهل المدينة عملًا قرنًا بعد قرنٍ، واحتجَّ الطَّحاويُّ لأصحابه بالقياس على سائر الصَّلوات مِن التطوُّع، وجوابه أنَّ هذه خُصَّت بأمورٍ كصلاة الخوف والعيد والجنازة، ولا مدخل للنظر في ذلك.
          الثالث: قوله في صِفة القيام الثالث والرابع: (دُوْنَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ)، يريد الذي يليه، ووجه ذلك أنَّ وصفه بأنَّه دون القيام الذي يليه أبينُ في موضعه لأنَّا إن صرفناه إلى أقلِّ قيامه لم يعلم إن كان تقدير الثاني أكثر منه أو أقلَّ، فكانت إضافته إلى الذي يليه أولى.
          الرابع: فيه أنَّ يسير العمل في الصَّلاة لا يفسدها، وهو إجماعٌ فإنَّه صلعم تناول ثمَّ تكعكعَ، والتَّناول مدُّ اليد للأخذ، وفي حديث آخر ((لو اجترأت))، وهو دالٌّ على أنَّه تركه لِمَا داخلهُ مِن الهيبة وإعظام ما رأى.