التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف

          ░7▒ بَابُ التَّعوُّذِ مِن عَذَابِ القَبْرِ في الكُسُوفِ.
          1049- 1050- ذكر فيه حديث عائشةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم (أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ...) الحديث.
          ويأتي إن شاء الله في باب: صلاة الكسوف في المسجد، وأخرجه مختصرًا في باب: الركعة الأولى في الكسوف أطول، وأخرجه مسلمٌ أيضًا. / وهذه اليهوديَّةُ لعلَّها سمعت ذلك في التوراة، أو في كتابٍ مِن كتبهم.
          وسؤال عائشة رسولَ الله صلعم لأنَّ عائشة كانت تعلم أنَّ العذاب والثواب إنَّما يكونان بعد البعث، ولم تكن قبل ذلك علمت بعذاب القبر، فقال لها ◙: (عَائِذًا بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ): أي أعوذ عياذًا به منه، وقد تَرِدُ مصادر على وزن فاعل: عافاه الله عافية، ويحتمل أن يريد التَّعوُّذ بالله مِن أنَّ يُعذِّب النَّاس في قبورهم إن لم يكن أخبر بذلك، ويحتمل أنَّه تعوَّذ بالله مِن عذاب القبر، وإن كان النَّاس يُعذَّبون في قبورهم.
          وقوله: (ذَاتَ غَدَاةٍ) أي: في غداةٍ. فجعل (ذَاتَ) بمعنى «في». كذا قاله الدَّاوديُّ، وتعقَّبه ابن التِّين فقال: ليس بصحيحٍ، بل تقديره: في ذات غَدَاة.
          وقوله: (فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) كذا هو هنا (يُصلِّي) بالياء. وفي باب: صلاة الكسوف في المسجد (ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى) بالفاء. والمراد بالحُجر: حُجر النَّبِيِّ صلعم مِن بيتها إلى المسجد.
          وقولها: (فَرَجَعَ ضُحًى) اختلف العلماء في وقت صلاة الكسوف فأوَّله: وقت جواز النَّافلة بعد طلوع الشَّمس لا خلاف في ذلك كما قاله ابن التِّين. وأمَّا آخره: فقال مالكُ: إنَّها إنَّما تُصلَّى ضحوة النَّهار ولا تُصلَّى بعد الزَّوال، يجعلها كالعيدين، وهي رواية ابن القاسم. وروى عنه ابن وهبٍ: تُصلَّى في وقت صلاة النَّافلة وإن زالت الشَّمس. وعنه: لا تُصلَّى بعد العصر ولكن يجتمع النَّاس فيدعون ويتصدَّقُون ويرغبون. وقال ابن حبيبٍ عند ذكر رواية ابن وهبٍ: وهكذا أخبرني ابن الماجِشُون ومُطَرِّف وأصبغ وابن عبد الحَكَم، وأنكروا رواية ابن القاسم، وبهذا قال الكوفيُّون: لا تُصلَّى في الأوقات المنهيِّ عن الصَّلاة فيها لورود النهي بذلك، وتُصلَّى في سائر الأوقات.وهو قول ابن أبي مُلَيكةَ وعطاءٍ وجماعةٍ.
          وقال الشافعيُّ: تُصلَّى في كلِّ وقتٍ نصف النَّهار وبعد العصر والصبح، وهو قول أبي ثورٍ وابن الجلَّاب المالكيِّ وقال: النَّهي عن النَّافلة المبتدأة لا عن المكتوبات والمسنونات، وعند أهل المقالة الأولى: النَّهي عن الصَّلاة المسنونة كنهيه عن الصَّلاة المبتدأة، وعن الحنفِيِّ: لو طلعت الشَّمس مكسوفةً لم يُصلِّ حتَّى يدخل وقت النَّافلة، واختاره ابن المنذر.
          وفي «المبسوط»: ولا تُصلَّى الكسوف في الأوقات الثلاثة.
          قال اللَّيث بن سعد: حججتُ سنة ثلاث عشرة ومائة، وعلى الموسم سُليمان بن هشامٍ، وبمكَّة عطاء بن أبي رباحٍ وابن شهابٍ وابن أبي مُلَيكة وعِكْرِمة بن خالدٍ وعمرو بن شعيبٍ وأيُّوب بن موسى، فكُسِفت الشَّمس بعد العصر فقاموا قيامًا يدعون الله في المسجد، فقلت لأيُّوب: ما لهم لا يصلُّون وقد صلَّى رسول الله صلعم في الكسوف؟ فقال: النَّهي قد جاء عن الصَّلاة بعد العصر، فلذلك لا يصلُّون، ولكن يَقِفُون ويَذْكرون حتَّى تنجلي الشَّمس، وهو مذهب الحسن البصريِّ وإسماعيلَ بن عُلَيَّة والثوريِّ. وقال إسحاق: يصلُّون بعد العصر ما لم تصفرَّ الشَّمس وبعد صلاة الصُّبح، ولا يصلُّون في الأوقات الثلاثة، فلو كَسَفت عند الغروب لم يُصلِّ إجماعًا، كما حكاه في «الذَّخيرة» لذهاب رجاء نفعها.
          وقال ابن قُدَامة: وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاةٍ جعل مكان الصَّلاة تسبيحًا، هذا ظاهر المذهب؛ لأنَّ النافلة لا تُفعل أوقات النَّهي، سواء كان لها سبب أو لم يكن، رُويَ ذلك عن الحسن وعطاء وعكرمة بن خالدٍ وابن أبي مُلَيكةَ وعمرو بن شعيبٍ وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزمٍ ومالكٍ وأبي حنيفة خلافًا للشافعيِّ، وبه قال أبو ثورٍ ونصَّ عليه أحمد.
          قال الأَثْرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن الكسوف في غير وقت الصَّلاة، كيف يصنعون؟ قال: يذكرون الله ولا يصلُّون إلَّا في وقت صلاةٍ، قيل له: وكذلك بعد الفجر؟ قال: نعم، لا يصلُّون.
          وروى قَتَادة قال: انكسفت الشَّمس بعد العصر ونحن بمكَّة، فقاموا قيامًا يدعون فسألت عن ذلك عطاء فقال: هكذا يصنعون، وعن أحمد أنَّهم يصلُّون الكسوف في أوقات النَّهي، قال أبو بكر بن عبد العزيز: وبالأوَّلِ أقول وهو أظهر عندي.
          وفي الحديث أنَّ عذاب القبر حقٌّ، وأهل السُّنَّة مجمعون على الإيمان به والتَّصديق، ولا ينكره إلَّا مبتدعٌ، وأنَّ مَن لا علم له بذلك لا يأثم، وأنَّ مَن سمع ذلك وجب عليه أن يسأل أهل العلم ليعلم صِحَّتَهُ، وأمَّا صلاة الكسوف في المسجد فهو الذي عليه الفقهاء، وقد سلف ما فيه.
          وقولها: (وَانْصَرَفَ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ) قصد بذلك تعظيم كلامه ومبالغته فيما قصد إلى الكلام.
          وقولها: (ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ) يحتمل أن يكون قد تقدَّم علمه بذلك، وظنَّ أنَّه قد شمل ذلك أصحابه، فلمَّا رأى سؤال عائشة عن ذلك، احتاج أن يُذكِّرهم ويأمرهم بالاستعاذة، ويحتمل أنَّه لم يكن له قبل ذلك علم، وكان سؤال عائشة أن يعلم به، فأمر أصحابه أن يتعوَّذوا منه.