التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصدقة في الكسوف

          ░2▒ بَابُ الصَّدَقَةِ في الكُسُوفِ.
          1044- ذكر فيه حديث عائشة أنَّها قالت: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم...) الحديث.
          وأخرجه مسلمُ والأربعة، ووصفُ صلاة الكسوف: في كلِّ ركعة قيامان وقراءتان وركوعان، والسَّجدتان على حالهما، وبه قال الشافعيُّ، وهو مرويٌّ عن مالكٍ والليث وأحمد وأبي ثورٍ وأكثر أهل الحجاز، وهو كذلك في حديث ابن عبَّاسٍ الآتي في صلاتها جماعة، وحديث عبد الله بن عمروٍ الآتي في طول السجود فيه. قال أبو عمر: وحديث عائشة أثبتُ حديثٍ وأصحُّه، قال ابن التِّين: ورواية ابن عبَّاسٍ أيضًا كذلك.
          قولها: (فَأَطَالَ القِيَامَ) أي: لطول القراءة، وفي حديث ابن عبَّاسٍ نحوًا مِن سورة البقرة، وفسَّره ابن شهاب بعد هذا فقال: فاقترأَ قراءةً طويلةً.
          فرع: يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثالثة بأمِّ القرآن، وأمَّا الثانية والرابعة فيقرأ بها أيضًا عندنا، وعند مالكٍ يقرأ السُّورة، وفي الفاتحة قولان: قال مالك: نعم، وقال ابن مَسْلَمة: لا.
          وقولها: (وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ) أراد به أنَّ القيام الأوَّل أطول مِن الثاني في الركعة الأولى، وأراد أنَّ القيام في الثانية دون القيام الأوَّل في الأولى والركوع الأول فيها دون الركوع الأول في الأولى وأراد بقوله: (فِي القِيَامِ الثَّانِي في الثَّانِيَةِ) أنه دون القيام الأول فيها، وكذلك ركوعه الثاني فيها دون ركوعه الأوَّل فيها، قال أبو عمر: وقد قيل غير هذا، وهذا أصحُّ ما قيل في ذلك عندي _والله أعلم_ لتكون الركعتان معتدلتَين في أنفسهما، فكما نقص القيام الثاني في الركعة الأولى عن القيام الأوَّل فيها، والركوع الثاني مِن الأوَّل أيضًا عن الرُّكوع الأوَّل فيها نفسها، فكذلك تكون الركعة الثانية ينقص قيامها الثاني عن قيامها الأوَّل إلى آخره، ثمَّ قال: وجائزٌ على القياس أن يكون القيام الأوَّل في الثانية مثل القيام الثاني في الأولى، وجائز أن يكون دونه.
          وقال النَّوويُّ: اتَّفَقُوا على أنَّ القيام الثاني والركوع الثاني مِن الأولى أقصر مِن القيام الأوَّلِ والركوع، وكذا القيام الثاني والركوع الثاني مِن الثانية أقصر مِن الأوَّل منهما مِن الثانية، واختلفوا في القيام الأوَّل والركوع الأوَّل مِن الثانية، هل هما أقصر مِن القيام الثاني والركوع الثاني مِن الركعة الأولى؟ ويكون هذا معنى قوله: (وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ وَدُوْنَ الرُّكُوْعِ الْأَوَّلِ) أم يكونان سواءً؟ ويكون قوله: (دُوْنَ الْقِيَامِ أَو الرُّكُوْعِ الأَوَّلِ)، أي: أوَّل قيامٍ وأوَّل ركوعٍ.
          وقولها: (ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ) يعني: أنَّه خالف به عادته في سائر الصَّلوات كما في القيام، قال مالك: ويكون ركوعه نحوًا مِن قيامه وقراءته.
          وقولها (ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ) هو ظاهرٌ في تطويله.
          قال أبو عمر عن مالكٍ: لم أسمع أنَّ السجود يطول في صلاة الكسوف، وهو مذهب الشافعيِّ، ورأتْ فرقةٌ مِن أهل الحديث تطويل السجود في ذلك.
          قلتُ: وجمهور أصحابنا على أنَّه لا يطوله بل يقتصر على قَدره في سائر الصلوات.
          وقال المحقِّقُون منهم: يُستحبُّ إطالته نحو الركوع الذي قبله، وهو المنصوص في البُوَيطيِّ، وهو الصحيح للأحاديث الصريحة الصحيحة في ذلك، والخلاف عند المالكيَّةِ: فاستحبَّه ابن القاسم، وقال مالك وابن حبيبٍ: لا.
          وقولها: (فَخَطَبَ النَّاسَ) صريحٌ في استحبابها، وبه قال الجمهور، منهم الشافعيُّ / وإسحاق وابن جريرٍ وفقهاء أصحاب الحديث، وتكونان بعد الصَّلاة، وخالف الأئمة الثلاثة فقالوا: لا يُشرع لها الخطبة، ووافقنا أحمد في روايةٍ، وأغرب ابن التِّين فعزاه إلى أبي حنيفة أيضًا، والحديث رواه مالك وخالفه لأنَّه لم يشتهر، وأغرب ابن قُدَامة فقال: الشَّارع أمرهم بالصَّلاة والدُّعاء والتكبير والصَّدَقة، ولم يأمرهم بخطبةٍ، ولو كانت سُنَّة لأمرهم بها، ولأنَّها صلاة يفعلها المنفرد في بيته فلم يُشرع لها خطبةٌ، قال: وإنَّما جُعلت بعد الصَّلاة ليُعْلِمَهم حُكمها، وهذا مختصٌّ به، وليس في الخبر ما يدلُّ على أنَّه خطب كخطبتي الجمعة، وكلُّه غريبٌ منه عجيبٌ، وأبعد منه مَن قال: خطب صلعم بعدها، لا لها ليردَّهم عن قولهم: إنَّ الشَّمسَ كُسفت لموت إبراهيم وكذا قول ابن التِّين، يريد أتى بكلامٍ على نَظم الخُطب، فيه ذِكر الله ووعظ للنَّاس، وليس بخطبتين يرقى لهما المنبر ويجلس في أوَّلهما وبينهما.
          وقوله: (وَتَصَدَّقُوا) فيه: استحبابها في هذه الحالة، وهو ما ترجم له.
          وفيه الأمر بالدُّعاء والتَّضرُّع في التوبة والمغفرة وصرف البلاء، وأمر بالتكبيرِ لأنَّه يُتقرَّب به إليه ويُستدفع به سطوته، وأمرهم بالصَّدَقة لأنَّها مِن أقرب الأعمال التي يمكن استعجالها، وأمَّا الصَّوم والحجُّ والجهاد فيتأخَّر أمرها.
          وقولها: (ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى) يعني: مِن التعبير بالتكرار والتطويل.
          وقولها: (ثُمَّ انْصَرَفَ) يعني: مِن الصَّلاة (وَقَد انْجَلَتِ الشَّمْسُ). وفي «الموطَّأ»: ((تجلَّت)) فيحتمل أن انصرافه كان عند التجلِّي وهي السُّنَّة، فإن أتمَّ الصَّلاة قبل الانجلاء فلا تُعاد، ولكن يصلِّي إن شاء لنفسه ركعتين، ويحتمل أن يريد انصرف وقد كانت تجلَّت.
          وقوله: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَر مِنَ اللهِ). وفي مسلمٍ: ((إنْ منْ أَحَدٍ أغيرَ منَ الله)) بكسر همزة «إِنْ» وإسكان النُّون، وهو بمعنى: ما مِن أحدٍ أغيرَ مِن الله، وعلى هذا «أغير» بالنصب خبر إن النافية، فإنَّها تعمل عمل ما عند الحجازيين، وعلى التميمية هو مرفوع على أنَّه خبر المبتدأ الذي هو «أحد»، ومعناه: ليس أحدٌ أمنعَ مِن المعاصي من الله، ولا أشدَّ له كراهية لها منه تعالى.
          وفيه عِظة الناس عند الآيات، وأمرهم بأعمال البرِّ، ونهيهم عن المعاصي، وتذكرهم نعمات الله، وأنَّ الصَّدَقة والصَّلاة والاستغفار تكشف النِّقم وترفع العذاب، أَلَا ترى قوله صلعم للنِّساء: ((تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)).
          وفيه الإعلام بأنَّه ليس أحدٌ أغيرَ مِن الله، وإذا كان الواحد منَّا يغار أن يزنيَ عبدُه أو أمته، وليس أحدٌ أغيرَ منه، فيجِبُ أن يحذر عقوبته في مواقعة الزِّنا، وأقسم على ذلك للتأكيد، وناداهم (يا أمَّةَ محمَّد) على معنى الإشفاق عليهم، كما يخاطب الرَّجُل ولدَه: يا بنيَّ.
          وقوله: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ...) إلى آخره، يريد أنَّه خصَّه صلعم بعلمٍ لا يعلمه غيره، فلعلَّه أن يكون ما رآه في عرض الحائط مِن النَّار، ورأى منها منظرًا شديدًا لو علمت أُمَّتهُ مِن ذلك ما علم لكان ضحكهم قليلًا وبكاؤهم كثيرًا إشفاقًا وخوفًا.
          ثمَّ حديث الباب دالٌّ على أنَّ في كلِّ ركعةٍ يكرِّرُ القيام والركوع _كما سلف_ وصحَّ في مسلمٍ في كلِّ ركعةٍ ثلاثُ ركوعات، وصحَّ فيه أربعة، وروى أبو داود والحاكم: خمسة، وقيل: إنَّ روايات الركوعين أصحُّ وأشهر.
          قال ابن العربيِّ: لا خلاف أنَّ صلاة الكسوف ركعتان في الأصل، ولكن اختلفت الروايات هل كلُّ ركعةٍ مِن ركعةٍ أو ركعتين أو مِن ركعاتٍ؟ ففي رواية عائشة في التِّرْمذيِّ: ((ثَلَاثًا في وَاحِدةٍ))، قال: وكذا في مسلمٍ عن جابرٍ.
          وقال ابن قُدَامة: مقتضى مذهب أحمد جواز صلاتها على كلِّ صفةٍ، إلَّا أنَّ اختياره مِن ذلك ركعتان في كلِّ ركوع، قال أحمد: وروى ابن عبَّاسٍ وعائشة في صلاة الكسوف أربع ركعاتٍ وأربع سجداتٍ، وأمَّا عليٌّ فيقول: ستُّ ركعاتٍ وأربعُ سجداتٍ وكذا حُذَيفة، وهذا قول إسحاق وابن المنذر وبعض أهل العلم. قال: وتجوز على كلِّ صفةٍ صحَّ أنَّه صلعم فعلها، وقد رُوي عن عائشة وابن عبَّاسٍ أنَّه صلعم صلَّى ستَّ ركعاتٍ وأربعَ سجداتٍ.
          فائدة: قال المهلَّب في الحديث: إنَّ أكثر ما يُهدِّد صلعم في ذلك بالكسوف إنَّما كان مِن أجل الغناء، وذلك عظيمٌ في عهد النُّبوَّة وطراوة الشريعة، فلذلك قال صلعم هذا القول في قوله: (وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) دليلٌ على أنَّهم كانوا مُقبلين على اللهو واللَّعب، وكذلك كانت عادة الأنصار قديمًا، يحبُّون الغناءَ واللَّهو والضَّحك، أَلَا ترى قوله صلعم لعائشة وإقبالهما مِن عرسٍ: ((هَلْ عِنْدَكم لَهْوٌ؟ فإنَّ الأَنْصَارَ تُحِبُّ اللَّهْوَ)) فدلَّ على أنَّ اتِّباع اللهو مِن الذنوب التي تُوعِّد عليها بالآيات، يشهد لذلك حديث المعازف والقِيان.