شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج

          ░18▒ باب: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ.
          فيه عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إلى بِنَائِهِ فَبَصُرَ بِالأبْنِيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا(1): بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ صلعم: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ، فَرَجَعَ، فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا(2) مِنْ شَوَّالٍ). [خ¦2045]
          قال المؤلِّف: يحتمل أن يكون(3) ◙ قد كان شرع في الاعتكاف ودخل فيه، فلذلك قضاه لقول عائشة: (إنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ إذَا صَلَّى انصَرَفَ إلَى بِنَائِهِ). فإن كان هذا فيكون قضاؤه واجبًا عليه. وأهل العلم متَّفقون أنَّه لا يجب قضاء الاعتكاف إلَّا على من نواه وشرع في عمله ثمَّ قطعه لعذرٍ، ويحتمل أن يكون(4) ◙ لم يكن شرع في الاعتكاف ولا بدأ به، وإنَّما كان انصرافه إلى بنائه بعد صلاة الصُّبح مطلِّعًا(5) لأموره، والنَّظر في إصلاحها غير معتقد الدُّخول في الاعتكاف، ومن كان هكذا فله أن يرجع(6) عن إمضاء نيَّته لأمرٍ يراه، وقد قال العلماء: إنَّ من نوى اعتكافًا فله تركه قبل أن يدخل فيه، و على هذا الوجه تأوَّله البخاريُّ، وترجم(7) له باب من أراد أن يعتكف ثمَّ بدا له أن يخرج، و على هذا يكون قضاؤه له(8) تطوعًا.
          قال المُهَلَّب: وفيه من الفقه أنَّ من نوى شيئًا من الطَّاعات(9) ولم يبدأ بَعْدُ بالعمل فيه أنَّ له تركه إن شاء تركًا واحدًا، وإن شاء تركًا مؤخَّرًا إلى وقتٍ غيره، وقال(10) غيره: واعتكافه صلعم وإن كان تطوُّعًا فغير كبير(11) أن يكون قضاه في شوَّال من أجل أنَّه كان قد نوى أن يعمله وإن لم يدخل فيه لأنَّه كان أوفى النَّاس بما عاهد(12) عليه، ذكر سُنَيْد قال: حدَّثنا معتمر بن سليمان، عن كَهْمَس، عن مَعْبَد بن ثابت في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ(13)}الآية[التوبة:75]. قال: إنَّما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلَّموا به، ألم تسمع إلى قوله(14) في الآية: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}[التوبة:78].
          قال المُهَلَّب: في(15) قوله ◙: (آلبِرَّ تُرِدْنَ(16) بِهِنَّ) من الفقه أنَّ من عُلم منه الرِّياء في شيءٍ من الطَّاعات فلا بأس أن يُقطع(17) عليه فيه ومنعه منه، ألا ترى قوله ◙: (آلبِرَّ تَرَونَ بِهِنَّ). يعني أنَّهنَّ إنَّما أردن الحظوة والبركة(18) منه ◙، فلذلك قطع عليهنَّ ما أردنه(19) وأخَّر ما أراده(20).
          وفيه من الفقه: أنَّ للرَّجل منع زوجته وأمته وعبده من الاعتكاف في الابتداء، كما منع نساءه الَّذين ضربوا الأبنية، وهو قول مالك والكوفيِّين والشَّافعيِّ.
          واختلفوا إذا أذن لهم في ذلك فقال مالك: لا يمنعهم، وقال الكوفيُّون: لا يمنع زوجته إن أذن لها، ويمنع عبده إن أذن له، وقال الشَّافعيُّ: له منعهما جميعًا، وقال ابن شعبان كقول الشَّافعيِّ: له أن يمنعهما جميعًا(21) وإن أذن لهما ما لم يدخلا فيه، وهذا الحديث يدلُّ على صحَّة هذا القول لأنَّ النَّبيَّ ◙ قد كان أذن لعائشة وحفصة في الاعتكاف ثمَّ منعهما منه حين رأى ذلك، وفيه من الفقه: أنَّه قد يستر عن الضَّرائر تفضيل بعضهنَّ على بعض ولو بترك طاعة لله تستدرك بعد حين.


[1] في (م) و(ص): ((فقالوا)).
[2] قوله: ((عشرًا)) ليس في (م).
[3] زاد في (م): ((النبي)).
[4] زاد في (م): ((النبي)).
[5] في (م): ((مطالعًا)).
[6] في (م): ((فله الرجوع)).
[7] في (م): ((ولذلك ترجم)).
[8] قوله: ((له)) ليس في (م).
[9] زاد في (م): ((النوافل)).
[10] في (م): ((قال)).
[11] في (م): ((نكير)).
[12] في (م): ((عاهده)).
[13] زاد في (م): ((ليصَّدقنَّ)).
[14] زاد في (م): ((تبارك اسمه)).
[15] في (م): ((وفي)).
[16] في (م): ((ترون)).
[17] في (م): ((فلا بأس بالقطع)).
[18] في (م): ((والمثوبة)).
[19] زاد في (م): ((من ذلك)).
[20] زاد في (م): ((لنفسه)).
[21] قوله: ((جميعًا)) ليس في (م).