شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة

          ░3▒ باب: لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ.
          فيه: عَائِشَةُ قَلتْ(1): (وَإِنْ(2) كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ في الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا). [خ¦2029]
          قولها: (وَكَانَ لَا يَدخُلُ البَيتَ إلَّا لِحَاجَةٍ(3)) تريد الغائط والبول، وهكذا فسَّره الزُّهريُّ وهو راوي الحديث، ورواه مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عَمْرة عن عائشة وقال فيه: ((وكانَ لا يدخلُ البيتَ إلَّا لحاجةِ الإنسانِ)). وقال أبو داود: لم يتابع أحدٌ مالكًا في هذا الحديث على ذكره(4) عَمْرة، واضطرب فيه أصحاب ابن شهاب، فقالت طائفةٌ عنه عن عروة عن عائشة(5) وكذلك رواه ابن مهديٍّ عن مالك، وقالت طائفة: عن عروة وعمرة جميعًا عن عائشة. وكذلك رواه ابن وهبٍ عن مالك، وأكثر الرُّواة عن مالك عن عروة عن عَمْرة، فخطَّؤه في ذكر عَمْرة.
          قال المؤلِّف: ولهذه العلَّة _والله أعلم_ لم(6) يدخل البخاريُّ حديث مالك(7)، وإن كان فيه زيادة تفسير، لكنَّه ترجم للحديث بتلك الزِّيادة إذ كان ذلك عنده معنى الحديث.
          وقولها: ((وَكَانَ لَا يَدخُلُ(8) إِلَّا لِحاجَةِ الإِنسَانِ)) يدلُّ أنَّ المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصَّلوات وتلاوة القرآن وذكر الله، ولا يخرج إلَّا لما(9) إليه حاجة(10)، وفي معنى ترجيل رأس رسول الله صلعم جواز استعمال الإنسان كلَّ ما فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره، ومن جهة النَّظر أنَّ المعتكف ناذرٌ جاعلٌ على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله، فواجب عليه الوفاء بذلك، وألَّا يشتغل عنه بما يلهيه، ولا يخرج إلَّا لضرورة كالمرض البيِّن، والحيض في النِّساء، وهذا في معنى(11) خروجه لحاجة الإنسان.
          واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فرُوي عن النَّخَعِيِّ والحسن البصريِّ /
          وابن جبير أنَّ له أن يشهد الجمعة، ويعود المرضى، ويتبع الجنائز، وذكر ابن الجهم عن مالك أنَّه يخرج إلى الجمعة، ويُتمُّ اعتكافه في الجامع.
          وقال عبد الملك: إن خرج إلى الجمعة فَسَدَ اعتكافه، ومنعت طائفة خروجه لعيادة المريض والجنائز، وهو قول عطاء وعروة والزُّهريِّ(12) ومالك وأبي حنيفة والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يخرج المعتكف إلَّا إلى الجمعة(13)، والبول والغائط خاصَّة. وقال مالك: إن خرج المعتكف لعذر ضرورة(14) مثل أن يموت أبوه أو ابنه، ولا يكون له من يقوم به، فإنَّه يبتدئ اعتكافه، والَّذين منعوا خروجه لغير حاجة الإنسان أشعر(15) باتِّباع الحديث.
          قال ابن المنذر: قولها: (وَكَانَ(16) لَا يَدخُلُ البَيتَ إلَّا لِحاجَةِ الإِنسانِ) فيه دلالةٌ على منع المعتكف من العَشاء في بيته، والخروج من موضعه إلَّا لحاجة الإنسان لبول أو لغائط(17).
          قال ابن المنذر: واختلفوا في ذلك، فكان الحسن وقَتادة يقولان: له أن يشترط العشاء في منزله، وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشَّافعيُّ: إن كان المعتكف في بيته فلا شيء عليه، وقال أبو مجلز: ليس له ذلك، وهو(18) يشبه مذاهب(19) المدنيِّين، وبه نقول لأنَّه موافق للسُّنَّة، وذلك قول عائشة: (وَكانَ لَا يَدخلُ(20) إلَّا لِحاجَةِ الإنسانِ). وفي «العُتْبِيَّة» لابن القاسم عن مالك في الرَّجل يأتيه الطَّعام من منزله ليأكله(21) في المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا.
          قال ابن المنذر: وفيه دليل على أنَّ من حلف لا يدخل دارًا، فأدخل بعض بدنه أنَّه غير حانث لأنَّ المعتكف ممنوعٌ من الخروج من المسجد، ففي إدخاله رأسه لترجِّلَه عائشة دليل على إباحة ذلك، وعلى إباحة غسل المعتكف رأسه، ولو أراد المعتكف حلق رأسه فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه، كان ذلك عندي في معنى هذا، والله أعلم.


[1] في (ص): ((قالت)).
[2] في (م): ((عائشة، إن)).
[3] قوله: (إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا). قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) ليس في (ز) و(ص) وهو مثبت من (م).
[4] في (م): ((ذكر)).
[5] زاد في (م): ((وهم)).
[6] قوله: ((لم)) ليس في (م).
[7] قوله: ((وأكثر الرواة عن مالك عن عروة عن عَمْرة، فخطؤه...... حديث مالك)) ليس في (ز) و(ص) وهو مثبت من (م).
[8] زاد في (م): ((البيت)).
[9] زاد في (م): ((له)).
[10] في (م): ((ضرورة)).
[11] قوله: ((معنى)) ليس في (م).
[12] زاد في (م): ((وعروة)).
[13] في (م): ((إلا للجمعة)).
[14] في (م): ((إن خرج لعذر غير ضرورة)).
[15] في (م): ((أسعد)).
[16] في (م): ((كان)).
[17] في (م): ((الإنسان؛ الغائط والبول)).
[18] في (م): ((وهذا)).
[19] في (م): ((مذهب)).
[20] زاد في (م): ((البيت)).
[21] في (م): ((أيأكله)).